منذ انطلاقتها مطلع العام خمسة وستين من القرن الماضي، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" تمضي بالفعل الثوري في دروب القيم والمفاهيم والأهداف الوطنية، وقد أدركت مبكرًا ضرورة تحصين هذه المنظومة بالقرار الوطني المستقل، الأمر الذي جعل أخطر معاركها هي معارك الدفاع عن هذا القرار، حتى لم يعد بإمكان أي من القوى الإقليمية والدولية أن تحتويه أو تتجاوزه، وهذا ما أوجد الرقم الفلسطيني الصعب في معادلة الصراع العربي الفلسطيني- الاسرائيلي الذي أثبتت الوقائع والأحداث استحالة شطبه، أو تجاهله، أو القفز من فوقه، وهكذا سيبقى، ولأن الرقم الفلسطيني في حقيقته ليس إلا التعبير الأمثل، عن واقع وحقيقة الإرادة الفلسطينية الحرة، بقوتها الأخلاقية، وسلامة خطابها السياسي، والوطني التحرري.
لم تستهدف "فتح" من وراء تحصين القيم والمفاهيم والأهداف الوطنية، بالقرار الوطني المستقل، تحصين ذاتها، بقدر ما استهدفت في الأساس تحصين النضال الوطني الفلسطيني، بجميع فصائله في دروب الثورة، وتحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما قاد وبفعل هذا التحصين، وهذا النضال إلى انتزاع الاعتراف العربي، والدولي تاليا بمنظمة التحرير، ممثلاً شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني.
سيظل مبكرًا تقييم السيرة والمسيرة الفتحاوية، بحكم أنها السيرة والمسيرة التاريخية لمرحلة التحرر الوطني، التي ما زالت تتقدم نحو تحقيق هدفها الاستراتيجي، في دحر الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطين المستقلة، بعاصمتها القدس الشريف، وتحقيق الحل الممكن لقضية اللاجئين طبقًا لقرارات الشرعية الدولية، سيظل مبكرًا بحق إجراء هذا التقييم، فبقدر ما هي سيرة "فتح" ومسيرتها حافلة بوقائع الاقتحامات المستحيلة التي حققتها، بقدر ما تأسطرت على نحو ما يجعل التقييم الموضوعي بحاجة إلى تقنيات فنية، ولغوية، لإدراك واقعية الأسطورة، وحقيقتها، وبخاصة في جوانبها الملحمية، لكن في ذكرى الانطلاقة، وفي الذكرى احتفال، وشعلة تقاد على نحو ما يؤكدها منذ خمسة وخمسين عامًا أنها شعلة الحرية، ما يسمح لخطاب الذكرى أن يكون راوية لبعض فصول السيرة والمسيرة، بأسماء فرسانها وفارساتها، الذين كتبوا بدمهم هذه الفصول، بدءًا من لجنتها المركزية، وحتى أبسط ثوارها موقعا تنظيميا، وبالاستناد إلى هذا الخطاب الراوية، يمكن للتقييم أن يبدأ محاولاته لإنجاز بعضا من فصول نصه التاريخي.
لم تنطلق "فتح" كحزب سياسي، ولم تكن غايتها سلطة، أو جاهًا، أو نفوذًا يمكنها من مصالح ذاتية، وإنما انطلقت كثورة شاملة للتحرر الوطني، وهذا ما جعل تاريخ انطلاقتها، تاريخا لانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبحكم وعيها التاريخي، وبمعنى إدراكها لوجود التاريخ، ووجودها فيه، باتت ديمومة للثورة، لأن هذا الوعي سمح بتطور الفكر السياسي الفلسطيني، امتثالاً لحقيقة، وطبيعة التاريخ، في حركته وتطوره بمراحل تصل بعضها ببعض دون انقطاع، ودائمًا لكل مرحلة، خاصة المفصلية منها، خطابها، وبرنامجها السياسي الخاص بها، وبلغة الثورة تجعل لكل مرحلة حلقتها المركزية التي توجب التصدي لها، بما يناسبها من برنامج سياسي، ونضالي يحقق أهداف الحلقة المركزية.
ليس هذا وعيًا سياسيًا ووطنيًا بطبيعة "فتح" وحقيقتها فحسب، وإنما هو الوعي التاريخي بكل مكوناته الثقافية، والاجتماعية، والحضارية، الذي جعل "فتح" تعمل على تأسيس مختلف المؤسسات المعنية بهذه المكونات للثورة، لأجل أن يشكل حضورها بين جماهير شعبها، حضورًا يعبر عن حقيقتها كثورة شاملة، وهذا بالمناسبة ما جعل الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، يعترف بحركة "فتح" كحركة تحرر وطني، ويقر التعامل معها كقوة قادرة على التغيير في الشرق الأوسط، ويستوجب دعمها على مستويات مختلفة، وهذا مرة أخرى ما جعلها ديمومة للثورة.
"فتح" الحكاية، هي حكاية الفكرة، والجمرة، والشعلة، والمعجزة الفلسطينية، حكاية السيرة والمسيرة الملحمية، لشعب قال عنه شاعره محمود درويش إنه يهتف لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين، وهذه هي الأسطورة بحكايتها الفتحاوية.. كل عام وفلسطين بخير السيرة والمسيرة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها