يمتاز الرئيس محمود عباس أبو مازن بخطابه الإنساني المشتق من روح الوطنية، ونعتقد في هذا السياق أن الوطنية المنزهة الطاهرة من التعصب ككوكب يسير بتوازن طبيعي وبلا تصادم في فضاء الإنسانية، لكنها بذات الوقت لا تقبل أي طغيان عليها، وعليه فإن الوطنية الروحية هي ارقى التعابير عن الإنسانية الناظمة لفكر وعمل الانسان المنهجي، وقد لمسنا في كلمة الرئيس بمناسبة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد هذه الفلسفة التي نراها لغة وطنية روحية انسانية، مداها ابعد بكثير من لغة السياسة والدبلوماسية، فقد قال الرئيس: "مع أعيادِ الميلادِ، تتجهُ أنظارُ العالمِ إلى بيتَ لحم، في هذه الذكرى المجيدةِ لمولدِ السيدِ المسيحِ في مغارةِ كنيسةِ المهدِ، التي هي إرثٌ روحيٌ وتراثيٌ ووطنيٌ لشعبِنا وللإنسانيةِ جمعاء". ثم قال: "تأتي السنةُ الميلاديةُ الجديدةُ، وكلُنا أملٌ أنْ تتجددَ معها الحياةُ، وأن تنتصرَ معها الإنسانيةُ على هذه الجائحةِ التي أنهكتْ العالم، وأن يستمرَ العملُ نحوَ مستقبلٍ زاهرٍ لشعبِنا وأجيالهِ القادمة، فلنواصلْ دعواتِنا وصلواتِنا إلى العليِ القديرِ أنْ يحفظَ الإنسانيةَ جمعاء، لأنَنا جميعاً على هذه الأرضِ شركاء".
أعاد الرئيس أبو مازن لمفردات الخطاب الوطني الروحي الإنساني في المجالين السياسي والإعلامي مكانتها اللائقة وتحديدًا في مناسبات أعياد الميلاد التي دأبت بعض وسائل الإعلام– من غير قصد بافتراض حسن النية- على استخدام مصطلح (الطائفة المسيحية) وجاراها بذلك مثقفون وكتاب وآخرون في مقامات وطنية لا نشكك بمصداقيتها أبدًا، وإنما قد تعتبر عادة لغوية لا يقصد أحدهم معناها البعيد المدى رغم خطورته على وعي وثقافة المجتمع الوطني، لذا قدم الرئيس التهاني للشعب الفلسطيني كله فقال: "نتقدم لأبناءِ شعبِنا بأحرِ التهاني في أعيادِ الميلادِ والسنةِ الجديدة، التي هي مِنْ أعيادِنا الدينيةِ والوطنية، كما مولدِ نبَّيِنا محمدٍ صلى الله عليه وسـلم، وكلِ الأنبياءِ والمرسلينَ، مُؤكدينَ على رسالةِ المحبةِ والسلامِ والعدل، التي جاءَ بها السيدُ المسيحُ عليه السلام".. فالرئيس وجه تهانيه للشعب وليس لطائفة بعينها، وهذا ما يجب أن يثير انتباهنا، ويحثنا إلى تصويب مفردات خطابنا ورسالتنا الإعلامية والثقافية والسياسية.
نعتقد في هذا المقام بضرورة إعادة تصويب مفرداتنا الإعلامية لتصبح عامل تنمية للثقافة الوطنية الروحية والسياسية على حد سواء، فالأحاسيس البصرية والسمعية والذهنية وغيرها هي بوابات الاتصال مع الآخر، وعوامل رئيسة لتكوين الوعي، الذي سيكون في المستوى المناسب للانسجام مع الوطنية السياسية والوطنية الروحية الانسانية، كلما كانت المفردات المستخدمة في الخطاب صحيحة وسليمة ومقصودة المعنى، فاللغة أكثر من مجرد كلام منطوق يسهل عملية التواصل بين أفراد المجتمع أو الشعب الواحد.
سيكون مهما التذكير في هذه المناسبة بخطأ وخطيئة تقسيم العالم على أساس عقائدي ديني كالقول الغرب المسيحي، والشرق الإسلامي مثلًا، فالمسيح عليه السلام فلسطيني مولود في بيت لحم وعاش داعيا للمحبة والسلام بين أبناء آدم في وطنه، وصلب ثم قام من على ارض مدينة الله القدس، فبيت لحم مهد المسيح، وكنيسة القيامة في القدس عاصمة فلسطين الأبدية ستبقيان مادامت سماء الدنيا في النهار زرقاء.
لا نستبعد وجود ناطقين باسم شيطان الاستعمار والغزو الثقافي وسعيهم الممنهج المبرمج لنشر هذه المصطلحات وتعميمها في كل مناسبة، لكن وعي الشعب، وادراكه السليم لهويته الوطنية، وثقافته الانسانية، هما الحصانة الثابتة والمؤكدة اللازمة للوجود، فالخلل والانهيار يبدأ عندما نسمح لقوى أو دول أو أي كيانات مهما كان تركيبها بتفصيل الدين على مقاس مصالحها، فتلبس ما تشاء وتلبسنا على غير مشيئتنا، وبذلك تصادر معالم وطنيتنا الروحية الانسانية، وتفعل بها ما تشاء في سياق مشروع استعماري نعيش تفاصيله بواقع الصدام مع المشروع الصهيوني واتباعه.
الفلسطينيون المسيحيون أدركوا خطر التهويد على وجودهم ومقدساتهم، باعتبارهم الامتداد الوطني الروحي الانساني للمسيح، كما يعلمون أن المؤامرة الصهيونية لا تقتصر على تهويد مقدسات الفلسطينيين المسلمين، كالحملات العلنية على المسجد الاقصى، والحرم الابراهيمي على سبيل المثال لا الحصر، فعملوا على توطين الكنيسة وتحريرها من هيمنة (كهنوتية سياسية) وتنظيم هيكلها بما يضمن مكان الصدارة لأبناء الأرض المقدسة (فلسطين) في إدارة شؤون كنائسهم، بما يضمن استمرار العلاقة الطبيعية المتينة مع المؤمنين في بلدان العالم الذين يحجون إلى كنيسة القيامة في القدس، والمهد في بيت لحم، حيث الخطر الوجودي المحدق بالمسيحيين الفلسطينيين باعتبارهم العائلة الأولى للسيد المسيح عليه السلام، فاعتبروا بيع أراض فلسطينية للمحتل والمستوطن الاستعماري العنصري الإسرائيلي خيانة للمسيح، وأن الفاعل بمقتضى العقيدة والقانون والقيم والأخلاق، والمبادئ الوطنية لا يحق له تمثيل الكنيسة، أو اي مواطن مسيحي في فلسطين.
لا نفكر أبدًا بقومنة أوعرقنة الدين– نسبة للقومية والعرقية- كما فعلت المنظمة الصهيونية الاستعمارية العنصرية باستغلالها اليهودية، وكما تسعى إليه حكومة منظومة الاحتلال الاسرائيلي لإضفاء الصبغة الدينية على كيانها، فالرسالات السماوية بعثت وحملها الرسل لكل الناس، لا تفرق نصوصها بين أعراقهم وقومياتهم وأجناسهم وألوانهم، فالإنسان هو الانسان، بقيمته وكرامته، ورقيه وسموه وآدابه إذا طبق الوصايا العشرة، وهي المبادئ والتعاليم الجامعة لرسالات السماء عبر زمان البشرية.
تمكن كثيرون في هذا العالم من تحويل الدين الى سلاح فتاك ضد الانسان، وبذلك حرفوه عن سبيل روحي ونفسي لإدراك اسرار الحياة وسبل النجاة والاطمئنان للعيش بسلام، فبدلوا قيم المحبة الى تعاليم كراهية يزرعونها في تربة النفوس الآدمية الهشة، وأحلوا حروبًا مقدسة تسفك في ميادينها دماء الانسان، غير عابئين بقدسية نفسه وروحه وكينونته، ونصبوا الظلم والتمييز على منصة العدل، حدث هذا منذ اللحظة الأولى التي تم فيها استخدام الدين لتحقيق مآرب سلطوية سياسية، أو تمرير تنظيرات هدفها رفع الحدود والحواجز بين أمة الإنسان.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها