لم يكُنْ مقياسُ الحقِّ كافيًا لحسمِ الخلافاتِ والصّراعاتِ منذُ فجرِ التّاريخِ، فالعدالةُ البشريّةُ النّسبيّةُ قد تلتزمُ بالحقِّ كمبدأٍ لحلِّ الخلافاتِ التي يمكنُ أنْ يكونَ هناكَ سلطةٌ قويّةٌ لإلزامِ أطرافِ الخلافِ بما تقرُّهُ، لكنّ هذا المبدأ سرعانَ ما يفقدُ قوّتهُ عندما تغيبُ السلطةُ التي تقومُ بدورِ الحَكَمِ والضّامنِ لتطبيقِ القانونِ الذي يُجمعُ الناسُ على أنّهُ منسجمٌ مع شروطِ العدالةِ التي ارتضاها المجتمعُ لتكونَ مرجعيّةً يحتكمُ إليها لحسمِ أيِّ خلاف. ويفقدُ مبدأ الالتزامِ بالحقِّ كمعيارٍ للتوفيقِ بينَ المتصارعينَ عندما يتعلّقُ الأمرُ بالصراعاتِ بين الأممِ والشعوبِ والدّولِ، خاصةً في ظلِّ غيابِ الحَكَمِ النّزيهِ الذي يملكُ القدرةَ على تطبيقِ العدالةِ وإلزامِ المتنازعينَ بقرارِه. وفي العصرِ الحديثِ نرى كيفَ يغيبُ دورُ الهيئاتِ الدّوليةِ التي ارتضاها المجتمعُ الدّوليُّ لتكونَ أداتَهُ في تطبيقِ القانونِ الدّوليِّ بصفتِهِ رديفَ مفهومِ الحقِّ الذي توافقَت الأممُ على تعريفِهِ والالتزامِ به. ومقابلَ ذلكَ تتعاظمُ قوّةُ البطشِ والاستفرادِ الأمريكيِّ بالقرارِ الأمميّ وتفسيرِ الشرعيةِ الدوليةِ بما يتناسبُ مع أهواءِ ومصالحِ السياسةِ الأمريكيةِ وحلفائها. وهذا ما يجعلُ الحقَّ خاليًا من مضمونِه وعرضةً لمنطقِ القوّةِ الذي تجعلُ منهُ أمريكا معيارَ سياستِها الوحيد.

يمكنُ القولُ أنَّ تجاهلَ مبدأ الحقِّ والتقاعسَ عن تطبيقِهِ هو السببُ الرئيسُ الذي جعلَ القضيّةَ الفلسطينيّةَ تستمرُّ دونَ حلٍّ عادلٍ طوالَ كلِّ هذهِ السنواتِ، وهذا ما يحمّلُ المجتمعَ الدّوليَّ مسؤوليّةً مباشرةً عن النتائجِ الكارثيّةِ التي يتسبّبُ بها استمرارُ معاناةِ الشّعبِ الفلسطينيّ. وما يزيدُ من حجمِ تلكَ المسؤوليّةِ هو إمعانُ القوى المؤثّرةِ في الشأنِ الدّوليِّ في تجاهلِ حقيقةِ الصراعِ في فلسطينَ وتخلّيها الطوعيِّ عن القيامِ بواجباتِها، وهو ما يطلِقُ يدَ الإدارةِ الأمريكيّةِ للاستمرارِ في العبثِ بمبادئ العدالةِ والحقِّ، وهذا ما يتجلّى يومًا بعدَ يومٍ في القراراتِ المتلاحقةِ التي تتخذُها تلك الإدارةُ ضدَّ الحقِّ الفلسطينيِّ، معتمدةً على منطقِ القوّةِ والغطرسةِ والانحيازِ السافرِ إلى دولةِ الاحتلالِ والاستيطانِ وما تمارسُهُ من جرائمَ يوميّةٍ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيّ.

الحقُّ الفلسطينيُّ هو محورُ الإجماعِ الوطنيِّ، وكما أنَّ تجاهلَ المجتمعِ الدوليِّ لهذا الحقِّ يمثّلُ السببَ الرئيس لاستمرارِ معاناةِ شعبنا، فإنّ تمسّكَ هذا الشّعبِ بحقّهِ هو الذي حافظَ على بقائهِ وصمودهِ وتجسيدِ شخصيتهِ الوطنيّةِ رغمَ قوّةِ معسكرِ أعدائهِ وجبروتِهم. ولا نضيفُ جديدًا حين نقولُ أنّ الحقَّ الفلسطينيَّ يحتاجُ إلى توفير شروطِ القوّةِ الكافيّةِ للتمسّكِ به وحمايتهِ والذودِ عنهُ، فبدونِ قوةِ الوحدةِ والمقاومةِ والصمودِ لا يمكنُ إجبارُ أعدائنا على الاستسلامِ للحقِّ. هذا يجعلَ البحثَ عن مصادرِ القوّةِ فرضًا وواجبًا لا يجوزُ التخلّي عنهُ أو إهمالُهُ، فلا شيءَ يعفينا من القيامِ بهذا الواجبِ، وها هي تجربةُ التصدّي للعبثِ الأمريكيِّ تثبتُ مجدّدًا أنَّ الوحدةَ والثباتَ على الموقفِ الوطنيِّ كفيلةٌ بحمايةِ الحقِّ الفلسطينيّ وتوفيرِ شروطِ الصمودِ في هذهِ المرحلةِ القاسيةِ حيث يتجرَدُ العالمُ من قيمِهِ ويغمضُ عينيهِ عن رؤيةِ الواقعِ كما هو بعيدًا عن الكذبِ الأمريكيِّ-الإسرائيلي.

*الحقُّ الفلسطينيُّ سرُّ الصّمودِ، ويجبُ إسنادُهُ بما يلزمُهُ من عناصرِ القوّةِ، وأولّها هي الوحدة. إنجازُ الوحدةِ واجبٌ.
٢٨-١١-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلامحركةفتح_لبنان