لم تكنْ جريمةُ "إعلانِ بَلْفور" مجرّدَ واحدةٍ من سلسلةِ الجرائمِ التي ارتكبَتْها بريطانيا الاستعماريّةُ حيثما حلّتْ، لكنّها الجريمةُ الأكبرُ والأشَدُّ انتهاكًا لكلِّ مبادئ العدالةِ والأخلاقِ والإنسانيّة. وتزدادُ خطورةُ هذا الإعلانِ كلّما تراكمت آثارُهُ وتوالت الكوارثُ التي يجرُّها على الشّعبِ الفلسطينيِّ وعلى السّلمِ والاستقرارِ في العالمِ بأسرِه، لكنَّ ما يزيدُ من فظاعةِ الجريمةِ التي ارتكبَتْها بريطانيا بحقِّ شعبِنا هو أنَّ هذهِ الدّولةَ التي يُجرّدُها الاتحادُ الأوروبيُّ من كرامتِها الوطنيّةِ واستقلالِها تصرُّ على التّشبُّثِ بجريمتِها والدّفاعِ عنها بدلَ الاعتذارِ للشّعبِ الفلسطينيِّ عن كلِّ ما جرّهُ هذا الإعلانُ عليهِ من ويلات.

 

ليسَ هناكَ وثيقةٌ في التّاريخِ المعاصرِ يمكِنُها أنْ تختزلَ حقيقةَ مأساةِ الشّعبِ الفلسطينيِّ كما هو حالُ إعلانِ بَلْفور، ففي نَصِّهِ المُقتَضَبِ تتجسّدُ تفاصيلُ الظُّلمِ التاريخيِّ الذي لحقَ بشعبِنا وما زالَ يعاني من تبعاتِه حتّى اليوم. إذْ لمْ يكُنْ لبريطانيا عندما أصدرتْ هذا الإعلانَ أيُّ شكلٍ من أشكالِ السّيادةِ على فلسطينَ، ورغم ذلكَ تجرّأ وزيرُ خارجيّتها على توجيهِ الرسالةِ سيّئةِ الصّيتِ إلى الزعيمِ الصّهيونيِّ روتشيلد، الذي لم يكُن لهُ هو الآخرُ أو لحركتِهِ الصّهيونيّةِ الوليدةِ أيُّ مؤهّلٍ يعطيهِ الحقَّ بأنْ يكونَ عنوانًا لإعلانٍ يتعلّقُ بأرضِ فلسطينَ ومستقبلِها.

 

يمكنُ استكشافُ خطورةِ الإعلانِ من نقطتَين أساسيّتَين شكّلتا المضمونَ الحقيقيَّ لهُ والثّابتَ الوحيدَ في سياسةِ بريطانيا سواءً في فلسطينَ أو على المستوى الدّوليّ:

 

النقطةُ الأولى هي الالتزامُ البريطانيُّ بتنفيذِ الهدفِ الوحيدِ من الإعلانِ وهو إقامةُ دولةٍ يهوديّةٍ في فلسطينَ بناءً على مشروعِ الحركةِ الصّهيونيّةِ التي بدأت حينَها بالتحكّمِ بالقرارِ السّياسيِّ في بريطانيا. وقد شكّلَ هذا الالتزامُ محورَ وهدفَ السياسةِ البريطانيّةِ طوالَ فترةِ الانتدابِ البريطانيِّ في فلسطينَ، والذي تمَّ تثبيتُهُ ليكونَ أساسَ قرارِ عُصبةِ الأممِ الذي أعطى بريطانيا حقَّ الانتدابِ، وهو هدفٌ التزمت بريطانيا بتطبيقِهِ ولم تُنْهِ انتدابَها إلا عندما أكملتْ مهمَّتَها. هذا الدّورُ البريطانيُّّ الذي رسمَ معالِمَهُ إعلانُ بَلْفور يضعُ بريطانيا في مقدّمةِ المسؤولينَ عن كلِّ ما تعرّضَ لهُ شعبُنا من الظّلْمِ والتطاولِ على حقّهِ في وطنِه، وبذلكَ تكونُ النّكبةُ الفلسطينيّةُ الكبرى جريمةً تتحمّلُ بريطانيا مسؤوليتَها ومسؤوليةَ ما رافقَها وما تبِعها من المجازرِ، وما أدّت إليهِ من تهجيرٍ للجزءِ الأكبرِ من شعبِنا خارجَ وطنِه. 

 

النقطةُ الثّانيةُ هي ازدواجيّةُ التعاملِ البريطانيِّ مع الشّعبِ الفلسطينيِّ من جهةٍ ومع الحركةِ الصّهيونيةِ واليهودِ عمومًا من الجهةِ الأخرى، فالإعلانُ يتجاهلُ بشكلٍ متعمّدٍ وجودَ الشّعبِ الفلسطينيِّ صاحبِ أرضِ فلسطينَ الشرعيِّ، والذي كانَ يشكّلُ أغلبيةً ساحقةً لسُكانِها عندَ إصدارِ الإعلانِ الذي اكتفى على استحياءٍ بالإشارةِ لشعبِنا كطوائفَ من "غيرِ اليهودِ" لها بعضُ الحقوقِ المدنيّةِ والدّينيّةِ، دون الحديثِ عن حقوقِهِ السياسيّةِ التي يتمتّعُ بها أسوةً بكلِّ شعوبِ العالَم. وفي المقابلِ يصرُّ بَلْفور على أنَّ إقامةَ الدّولةِ الصّهيونيّةِ في فلسطينَ لن يكونَ لها أيُّ أثرٍ سلبيٍّ على حقوقِ اليهودِ ولا على وضعِهم السياسيِّ في البلدانِ الأخرى. هذه الإزدواجيّةُ هي التلخيصُ الفاضحُ للمشروعِ الاستعماريِّ في فلسطينَ، فهو ومنذُ البدايةِ مُصرٌّ على تجاهلِ وجودِ شعبِنا ويحرمُهُ من حقّهِ الأساسيِّ وهو حقُّهُ في السيادةِ على وطنِهِ، ويسلِبُ منهُ هذا الوطنَ ليعطيهِ هديّةً للحركةِ الصّهيونيّةِ لتقيمَ فيهِ دولةً يهوديّةً، دونَ أنْ يعني ذلكَ التقليلَ من تحكُّمِ الصّهاينةِ بالقرارِ السياسيِّ في دولِ العالمِ.  

 

*بعدَ مرورِ أكثرِ من مئةِ عامٍ على إصدارِ إعلانِ بَلْفور ما زالَ الظّلمُ التاريخيُّ الذي ألحقَهُ بشعبِنا يشكّلُ وصمةَ عارٍ في تاريخِ وحاضرِ بريطانيا، ولنْ نكفَّ عن مطلبِنا بأنْ تعتذرَ الحكومةُ البريطانيّةُ -بصفتِها وريثةَ إثْمِ الإعلانِ- عن جريمتِها، وأنْ يكونَ الاعترافُ بالدّولةِ الفلسطينيّةِ المستقلّةِ وعاصمَتُها القُدْس أولى مظاهرِ هذا الاعتذار. 

 

٢-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان