قرارُ الرئيسِ الأمريكيّ دونالد ترامب بسحبِ القواتِ الأمريكيّةِ التي تحتلُّ جزءًا من الأراضي السّوريّةِ هو استكمالٌ للدّورِ الأمريكيِّ في تخريبِ سوريا وليسَ تراجُعًا عنهُ أو إقرارًا بالهزيمةِ كما يحاولُ أن يصفَهُ خبراءُ صناعةِ النّصرِ من كلِّ كارثةٍ تحلُّ بالأمّةِ. لا شكَّ أنّ مشروعَ إسقاطِ النظامِ في سوريا قد قاربَ على نهايتِهِ الفاشلةِ، ولذلكَ أسبابٌ عديدةٌ ليس أقلَّها التوافقُ الرّوسيُّ-الإيرانيُّ من جهةٍ، والتنسيقُ الروسيُّ-الإسرائيليُّ من جهةٍ أخرى. لكنَّنا يجبُ ألّا نغفِلَ أهميّةَ الدّورِ التركيّ في تحديدِ الشكلِ النّهائيِّ لخارطةِ سوريا ما بعدَ الحربِ الأهليّةِ بكلِّ ما تمتلكُهُ تركيا من عناصِرِ القوّةِ والتأثيرِ داخلَ سوريا ذاتِها، وبكلِّ ما يتملّكُها من هَوَسِ استعادةِ نفوذِها في المنطقةِ العربيّةِ، وخاصّةً في الدّولَتَيْنِ العربيّتَيْن الجارَتَيْن لها -سوريا والعراق.

 

 

يدركُ المُتَتبّعُ لسياساتِ ترامب حجمَ التّردّدِ الذي يعتري قراراتِهِ عندما تقتربُ الأمورُ من لحظةِ الصّدامِ العسكريِّ، شاهدنا ذلكَ في سوريا، وخلالَ الأزمةِ مع كوريا الشّماليّةِ التي انتهت بالحوارِ مع النظّامِ الذي تصفهُ أمريكا بكلِّ ما يُفتَرضُ أنْ يجعلَ الحوارَ معهُ مستحيلاً. كما شاهدنا العجزَ الأمريكيَّ عن الردِّ على إسقاطِ إيرانَ للطائرةِ الأمريكيّةِ المسيّرةِ، علاوةً على التردّدِ في اتّخاذِ موقفٍ واضحٍ من الاعتداءِ على المرافقِ النّفطيّةِ السّعودية. لكنّ ما نشهدُهُ من تردّدٍ أمريكيِّ يجبُ أن لا يخدَعَنا ويجعلَنا نركنُ إلى ضعفِ الإدارةِ الأمريكيّةِ أو جنوحِها المفاجئِ نحو السّلمِ والتخلّي عن سياسةِ التهديدِ والتدخّلِ في شؤونِ دولِ العالمِ دونَ استثناءٍ، فهذا التردّدُ ليسَ سوى جزءٍ من إعادةِ رسمِ الأولويّاتِ التي تسعى الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ للتصدّي لها.

 

تحتلُّ المواجهةُ الاستراتيجيةُ مع الصّينِ كقوّةٍ صاعدةٍ ومنافِسةٍ للهيمنةِ الأمريكيّةِ أولويّةً مطلقةً في سياسةِ الإدارةِ الأمريكيّةِ، وحتى لا نخطئَ التّقديرَ فإنَّ التصدّي للخطرِ الصينيِّ ليسَ قرارًا محصورًا بإدارةِ ترامب أو حزبِهِ الجمهوريِّ وإنّما هو قضيّةُ إجماعٍ بينَ الحزبَيْنِ الرئيسَيْن وداخلَ مراكزِ البحثِ والتخطيطِ الأمريكيّةِ. ولا يقتصرُ الخطرُ الصينيُّ الذي يتهدّدُ الإمبراطوريةَ الأمريكيّةَ على تنامي القوّةِ الاقتصاديةِ لهذا البلدِ العملاقِ، وهو ما تحاولُ أمريكا الحدَّ منهُ عبر سياسةِ فرضِ مزيدٍ من الرّسومِ والقروضِ على الوارداتِ الصينيّةِ، وإنّما يتجاوزُ ذلكَ إلى تطويرِ القدراتِ العسكريّةِ الصينيّةِ وتمدّدِ القواعدِ البحريةِ في العديدِ من دولِ العالَم، إضافةً إلى ازديادِ قدرةِ الصينِ على المنافسةِ "التكنولوجيّةِ" في كلِّ المجالاتِ، ولعلَّ خيرَ مثالٍ هو هذا الصّراعُ المحمومُ الذي تخوضهُ الإدارةُ الأمريكيّةُ لمنعِ الصّينِ من فرضِ نموذجِها للجيلِ الخامسِ من شبكةِ الخليوي، المعروفةِ اختصارًا بِاسم 5G. وفي سبيلِ التفرّغِ لمواجهةِ الخطرِ الصينيِّ تُسارعُ أمريكا إلى محاولةِ إنهاءِ التوتّرِ في شبهِ الجزيرةِ الكوريّةِ وتسابقُ الزّمنَ في محاولاتِها لمنعِ الصّينِ من إنشاءِ جُزُرٍ اصطناعيّةٍ تتخذُ منها قواعدَ عسكريّةً تحدُّ من حرّيةِ الحركةِ أمامَ البحريّةِ الأمريكيّةِ في بحرِ الصّينِ وما حولَهُ. وعلينا أن نضعَ في السياقِ ذاتِهِ -سياقِ التفرّغِ للخطرِ الصينيِّ- كلَّ مظاهرِ الإنسحابِ الأمريكيِّ الخفيِّ والمُعلَنِ من مناطقِ الصراعِ الأخرى في العالَمِ، إذْ لم يعُدْ بمقدورِ أمريكا خوضُ صراعاتٍ متعدّدةٍ في آنٍ واحدٍ، وليس عجزُها عن حسمِ النزاعِ في فنزويلا أو فرضِ صفقةِ القرنِ على الشّعبِ الفلسطينيِّ سوى أمثلةٍ على أنَّ السياسةَ الأمريكيّةَ ليستْ قَدَرًا محتومًا.

 

أمّا المسألةُ الثانيةُ التي تحظى بالأولويّةِ في السياسةِ الأمريكيّةِ فهي حمايةُ المشروعِ الصّهيونيِّ في فلسطينَ وتوفيرُ كلِّ ما يلزمُهُ من دعمٍ عسكريٍّ واقتصاديٍّ وسياسيٍّ مطلق. هكذا نفهمُ "صفقةَ القَرنِ" وما تشكّلهُ من خطرٍ على القضيّةِ الفلسطينيّةِ. وهكذا يجبُ فهمُ الإصرارِ الأمريكيِّ على إغراقِ المنطقةِ بالنّزاعات والحروبِ الدّاخليةِ وبالخلافاتِ المُزمِنةِ معَ دُولِ الجوارِ، والهدفُ من ذلكَ هو إشغالُ الدّولِ العربيّةِ بقضايا ثانويّةٍ وبأخطارٍ وهميّةٍ بعيدًا عن الخطرِ الذي تمثّلُهُ دولةُ الاحتلالِ والاستيطانِ الإسرائيليِّ في فلسطين. لمْ يكن الهدفُ من الحرَبِ في سوريا سوى تمزيقِ هذا البلدِ العربيِّ وتدميرهِ، وليسَ إسقاطَ النّظامِ بقدرِ ما هو إسقاطُ الدّورِ السّوريِّ في مواجهةِ الخطرِ الإسرائيليِّ، ومن أجلِ تحقيقِ هذا الهدفِ يسارعُ ترامب إلى سحبِ قوّاتِهِ من شمالِ سوريا بعدَ أنْ أكملَتْ تركيا -حليفتُهُ في حلفِ الناتو- الاستعداداتِ لغزوِ سوريا بحجّةِ تأمينِ نفسِها ضدّ خطرِ "الإرهابِ الكُرديِّ" وهي في الحقيقةِ تستعدُّ لتدخُّلٍ يخدمُ المصالحَ الأمريكيّةَ بإبقاءِ الصراعِ في سوريا مفتوحًا إلى أجلٍ غيرِ مسمّى، ويضيفُ إليهِ عاملاً جديدًا هو الاحتلالُ التركيُّ المباشرُ لجزءٍ هامٍّ من أرضِ سوريا بما ينبِّئُ بصراعٍ مفتوحٍ يضافُ إلى سلسلةِ الصراعاتِ والنّزاعاتِ التي تعصفُ بالمنطقةِ من اليمنِ حتى ليبيا مرورًا بالإرهابِ في سيناءَ وبالانقسامِ الناتجِ عن انقلابِ "حماس" على الشَرعيةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة.

 

*يجبُ التّصدي للمخّططِ التركيِّ المدعومِ بالانسحابِ الأمريكيِّ والهادفِ إلى احتلالِ جزءٍ من الأرضِ السّوريةِ، ولن يكونَ ذلكَ الاحتلالُ سوى عدوانٍ على سيادةِ هذا البلدِ العربيِّ بغضِّ النّظرِ عن طبيعةِ نظامِ حُكْمِه.

 

٨-١٠-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان