تَحتلُّ الذّاكرةُ الجماعيّةُ مكانَ الصّدارةِ في منظومةِ العواملِ التي تشكّلُ شخصيّةَ الأممِ والشّعوبِ، وتكادُ أنْ تطغى على ما دونِها منْ بقيّةِ العواملِ كاللّغةِ والعقيدةِ والثّقافةِ وغيرِها، لأنَّها ببساطةٍ نتاجُ تجربةٍ طويلةٍ تختزلُ تلكَ العواملَ مُجتمِعةً وتزيدُ عليها قُدرةً فائقةً على رَبْطِ التّجربةِ بآفاقِ المُستَقبلِ وما يَزخرُ بهِ منْ أهدافٍ ترقى إلى مصافِّ النّبوءةِ الوطنيّةِ، إذْ إنَّ الأهدافَ مَهْما كبرتْ ستبقى مُجرّدَ وَهْمٍ أو سرابٍ جماعيٍّ إذا لمْ ترتكزْ على أرضيةٍ صلبةٍ توفّرُها الذاكرةُ من خلالِ رَسمِها لما يُمكنُ القياسُ عليهِ وتطويرُهُ وإنتاجُ ما هو أجملُ منهُ، فالمستَقبلُ دائمًا هو صُورةٌ أجملُ لِما توفّرُهُ أهراءاتُ الذّاكرةِ منْ مَخزونِ تَجربةِ الأجيالِ التي سَبقتْنا، صورةٌ تزدادُ جَمالاً كلّما ازدادَ نقاءُ الذّاكرةِ واتّضَحتْ ملامِحُها لتُصبِحَ عَصيّةً على التّشويهِ والنّسيان.

 

للذّاكرةِ في التغريبةِ الفلسطينيّةِ دورٌ منْ نَوعٍ خاصٍّ يميّزُها عن غيرِها من تجاربِ الشّعوبِ الأخرى، وهناكَ العديدُ منَ العواملِ التي تزيدُ منْ صُعوبةِ الاحتفاظِ بنقاءِ الذاكرةِ الجماعيّةِ للشّعبِ الفلسطينيّ، لكنّنا سنركّزُ على عاملَيْنِ يكتَسبانِ أهميّةً خاصّة في هذا المجال.

 

العامِلُ الأوّلُ هو الصراعُ المُستمرُّ بينَ روايَتِنا الوطنيّةِ وبينَ ما تُحاوِلُ الحركةُ الصّهيونيّةُ أنْ تجعلَ منهُ روايةً بديلةً مناقضةً ونافيةً للرّوايةِ الفلسطينيّةِ، وذلكَ من خلالِ ما تمارسُهُ من تَزييفٍ للتّاريخِ والجغرافيا وعِلْمِ الآثارِ ونُصوصِ الكُتبِ السّماويّة، والهَدفُ منْ وراءِ هذا التَّزييفِ هو ترسيخُ الأساطيرِ لتُصبِحَ مُكوّنًا وَحيدًا للرّوايةِ الصهيونيّةِ بشكلٍ يُجرّدُ الذاكرةَ الفلسطينيّةَ منْ قُدرتَها على الصُّمودِ والاستمرارِ، إضافةً إلى خَطرِ التردُّدِ في دَحضِْ بعضِ الأكاذيبِ المُستَنِدةِ زورًا إلى خَلفيةٍ دينيّةٍ خَوفًا منَ المَساسِ بما يَعتقِدُ بعضُ البسطاءِ أنّها مسلّماتٌ لا تحتملُ النقاشَ، دونَ أنْ ينتَبِهَ إلى ضرورةِ التّمييزِ بينَ نُصوصِ الكتبِ السماويةِ وبينَ محاولاتِ استعارةِ رموزِ تلكَ النّصوصِ لتزويرِ التّاريخِ، فالإيمانُ المُطلَقُ برسالةِ أنبياءِ اللهِ ورُسُلِهِ لا يعني أنْ نسلِّمَ بما تَختلقُهُ الرّوايةُ الصهيونيّةُ منْ رَبْطٍ بينَ هؤلاءِ الأنياءِ والرّسُلِ وبينَ أرضِ فلسطينَ وتاريخِها، وعلى سبيلِ المثالِ لا الحَصْرِ يُمكنُ القولُ أنَّ الفلسطينيَّ المؤمنَ لا يكتَمِلُ إيمانُهُ إلّا حينَ يقفُ بخُشوعٍ أمامَ رسالةِ سيّدنا داوودَ عليهِ السّلامُ، لكنّهُ يجبُ أنْ يرفضَ الرّبطَ بينَ نبيِّ اللهِ وبينَ مُجرمٍ تستطيعُ الدعايةُ الصهيونيّةُ أنْ تُسمّيهِ كما تشاءُ وتضعَهُ جزافًا في لَحظةٍ محدّدَةٍ منْ تاريخِ فلسطينَ وجغرافيتِها، وتجعلَ منهُ رَجلاً مُغرَمًا بقَتلِ أهلِ فلسطينَ وتدميرِ مُدُنِهم وممتلكاتِهم. يجبُ أنْ لا نتردّدَ في رفضِ وجودِ شخصيّاتٍ مختلَقةٍ كهذهِ حتّى لو أعطتْها الدعايةُ الصهيونيةُ أسماءَ مُضلّلِةً بِهدفِ زَرْعِها في ذاكرتِنا الوطنيّة.

 

أما العاملُ الثّاني الذي يزيدُ منْ صُعوبةِ الحفاظِ على الذّاكرةِ الفلسطينيّةِ فهي حالةُ الشّتاتِ في منافي متعدّدةٍ تجعلُ هذهِ المهمّةَ أمرًا غايةً في التّعقيدِ، تزدادُ صعوبةً مع كلِّ ما يتعرّضُ لهُ شعبُنا منْ ملاحقةٍ واضطهادٍ وتمييزٍ وظُلمٍ لا هدفَ منْ ورائهِ سوى فصْلِ الفلسطينيِّ عنْ ذاكرتِهِ وإحداثِ شرخٍ بينَهُ وبينَ وطنِهِ بما يمثّلُهُ الوطنُ من هَدفٍ واضحِ المعالمِ إذا استمرّ الترابطُ بينَ الإنسانِ والذّاكرةِ. وهنا لا بدَّ من الإقرارِ بالدّورِ الطليعيِّ الذي قامتْ بهِ منظمّةُ التحريرِ الفلسطينيّةُ وعلى رأسِها حركةُ "فتح" منْ خلالِ تشكيلِها إطارًا حاضِنًا وحافظاً لذاكرةِ الشّعبِ الفلسطينيِّ المَنفيِّ قسرًا عن وَطنهِ، ولعلَّ أهمَّ إنجازٍ حقّقَتْهُ المنظّمةُ، إضافةً إلى الحفاظِ على الشّخصيّةِ الوَطنيةِ الفلسطينيّةِ، هو حفاظُها على الذاكرةِ الجماعيّةِ لشَعبِنا بشكلٍ جَعلَ قضيّةَ حقِّ العَودةِ واحدةً منَ ثوابتِ الإجماعِ الوطنيِّ وهدفًا يستندُ إلى ذاكرةٍ وطنيّةٍ صَمدَتْ أمامَ الرّوايةِ الصهيونيّةِ وحافظتْ على ذاتِها أمامَ إغراءاتِ المنافي التي لا تتوقّفُ عنْ حَثِّ شَعبِنا على الدُّخولِ إلى كَهْفٍ مُظْلِمٍ يَسْكنُهُ غُولٌ اسْمُه النّسيان.

 

*الذّاكرةُ الوطنيّةُ هي خيمَتُنا المؤقّتةُ في طَريقِنا نحوَ المُسْتقبَلِ.

 

٩-٩-٢٠١٩

 رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان