ما زالتْ الذاكرةُ الفلسطينيّةُ زاخرةً بما تميّزت بهِ الانتفاضتان الأولى والثّانيةُ من مظاهرِ التكافلِ والاكتفاءِ الذاتيّ المرتكزِ إلى ثقافةِ المقاومةِ والصّمودِ وإلى اقتصادٍ وطنيٍّ قدْ يفتقرُ إلى التقنيّاتِ الحديثةِ، لكنّهُ غنيُّ بروحِ الإبداعِ التي يسيّرُها ويوجّهُها دافعُ الإصرارِ على تعزيزِ مناعةِ الجبهةِ الدّاخليةِ وتوفيرِ ما يلزمُها من شروطِ الحفاظِ على استمراريّةِ العملِ النّضاليِّ وقطْعِ الطريقِ على محاولاتِ دولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الرّاميةِ إلى الاستفرادِ بالمدنِ والقرى والمخيّماتِ والحاراتِ وعزلِها عن محيطِها. هكذا شكّلت الانتفاضتانِ بجهودِ لجانِ المقاومةِ على كلِّ المستوياتِ نموذجًا عمليًّا للتغلّبِ على ممارساتِ أقسى وأبشعِ احتلالٍ في التاريخِ المعاصرِ، ليسَ فقط عبرَ المقاومةِ الشعبيّةِ الموجعةِ للمحتلِّ ومستوطنيهِ، وإنّما أيضًا بتوفيرِ كلِّ ما يلزَمُ المقاومينَ من ضروراتِ الشعورِ بالطمأنينةِ أنَّ المجتمعَ الفلسطينيَّ يحمي سلامةَ بيوتِهم ويوفّرُ لعائلاتِهم وذويهِم كلَّ ما يلزمُ منَ الدّعمِ والرعايةِ.

 

ليسَ منَ المُبالغةِ أو التّهويلِ في شيءٍ أنْ نقارِنَ بينَ الانتفاضَتيْنِ وبينَ ما نشهدُهُ الآنَ منْ هَجمةٍ تستهدِفُ وجودَ الشّعبِ الفلسطينيِّ في وطنهِ، سواءً عبرَ الاستهدافِ السيّاسيِّ من خلالِ مشروعِ "صفقةِ القَرْنِ"، أو عبرَ الحصارِ والقرصنةِ التي تمارسُها الإدارةُ الأمريكيّةُ وشريكتُها حكومةُ نتانياهو، أو عبرَ تصعيدِ الهجمةِ الاستيطانيّةِ والتلويحِ بضمِّ جزءٍ من أرضِ الضفّةِ المحتلّةِ لدولةِ المستوطنين. وغنيٌّ عن القولِ أنَّ الحالةَ الاستثنائيّةَ وشُحَّ المواردِ وتقلُّصَ الإمكانيّاتِ لا بُدَّ أن يُقابَلَ بإجراءاتٍ تتلاءمُ معَ متطلّباتِ المرحلةِ ولا تترُكُ للأعداءِ منفذًا يساعدُهُم على تحقيقِ ما يسعونَ إليهِ من أهدافٍ واضحةٍ لا يخجلونَ منَ الإفصاحِ عنها، وأوّلُها هو إخضاعُ الشّعبِ الفلسطينيِّ وقيادتِهِ لإرادتِهم الراميةِ إلى تمريرِ "صفقةِ القرنِ".

 

لا بدَّ من تشكيلٍ جبهةٍ وطنيّةٍ تعملُ على استنهاضِ كلِّ ما هو خيّرٌ وإيجابيٌّ ووطنيٌّ في مجتمعِنا الخبيرِ بالتغلُّبِ على المصاعبِ والصّمودِ في وجهِ التحدّيات. ولا بدَّ أنْ تستنِدَ حركةُ التكافلِ المجتمعيّ إلى قاعدةٍ أساسيّةٍ تضبطُ أداءَ الحكومةِ ومؤسساتِها، وهي قاعدةُ العدالةِ المطْلقةِ في توفيرِ الإمكانياتِ وتوزيعِ أعباءِ الأزمةِ الماليّةِ، وعلينا عدمُ الخلطِ بينَ مفهومَيْ العدالةِ والمساواةِ، فالمساواةُ طرحٌ طوباويٌّ لا وجودَ لهُ إلّا في مدينةِ أفلاطونَ الفاضلةِ، أمّا العدالةُ فهي مطلبٌ يوميٌّ أخلاقيٌّ ينطلقُ من قولِهِ تعالى: (لا يُكلّفُ اللهُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها).

 

أمّا القاعدةُ الثانيةُ التي يجبُ تطبيقُها فهيَ قاعدةُ تحمّلِ البنوكِ الوطنيّةِ لجزءٍ منْ أعباءِ هذهِ المرحلةِ الصّعبةِ والتي تقضُّ مضاجعَ الموظّفينَ البسطاءَ، ولا أحدَ يطلبُ من النظامِ البنكيِّ أنْ يعملَ كجمعيّةٍ خيريّةٍ، لكنّهُ مطالَبٌ باتِّباعِ سياساتٍ جديدةٍ تحفظُ حقوقَ البنوكِ لدى زبائنِها ولا تتسبّبُ في نفسِ الوقتِ بتدميرِ حياتِهم وهدْرِ مصدرِ دخلِهم الوحيدِ والمنقوصِ أصلاً بسببِ سياسةِ التقشّفِ وتخفيضِ الرّواتب. لنْ يضيرَ البنوكَ تأجيلُ تسديدِ أقساطِ القروضِ عدةَ أشهرٍ أو عامًا كاملاً، وكُلُّنا يعرفُ أنَّ القروضَ مصيدةٌ لا يقعُ فيها إلّا الفقراء.

 

لنْ تكتملَ دائرةُ تحصينِ المجتمعِ الفلسطينيِّ إلّا بمقاطعةِ المنتجاتِ الإسرائيليّةِ وتشجيعِ المُنْتجِ الوطنيِّ الذي لا تنقصُهُ الجودةُ ولا السّعرُ المنافِسُ ولا رائحةُ الوطن. وفي هذا المجالِ يجبُ تشجيعُ الاعتمادِ على الزّراعةِ كعمودٍ للاقتصادِ الوطنيِّ، بما في ذلكَ الزّراعةُ البيتيّةُ التي تساعدُ العائلةَ على توفيرِ ما يلزمُها من خيرات.

 

*التّكافلُ شرطٌ للصّمودِ، وهو تنقيةٌ للمُجتَمعِ الفلسطينيِّ ممّا علِقَ بهِ منْ مظاهرِ الأنانيّةِ واللامبالاةِ وإدارةِ الوجْهِ عن القضايا العامّةِ، فالخطرُ المُحدِقُ بفلسطينَ لا يستثني أحدًا، بما في ذلكَ مديرو البنوكِ.

 

٨-٩-٢٠١٩

 

 رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان