تَستطيعُ الدّيمقراطيّاتُ الغَربيّةُ أنْ تُنَظّمَ الانتخاباتِ وتَختارَ مُمثّلي الشّعبِ وتُشكّلَ الحُكوماتِ وتُنَصِّبَ الرؤساءَ ثُمَّ تُعفيهِم من مَهامّهِم إذا كانَ في ذلكَ مَصلحةٌ للشّعبِ أو للحزبِ الحاكِمِ أو إذعانًا للرأيِ العامِّ، فإدارةُ شُؤونِ الدّولةِ في العَصرِ الحديثِ هي مَسألةٌ تَحتاجُ إلى مَهاراتٍ مَوجودةٍ في مُتناولِ عامّةِ الشّعبِ، إذ لم يَعُد التّعليمُ حِكْرًا على طَبقَةِ النُّبَلاءِ أو الاقطاعيّين أو الأثرياءِ، وأصبَحتْ إمكانيّةُ تبوُّءِ أعلى المَناصِبِ في مؤسّساتِ الدَّولةِ مَسألةً مُرتَبطةً بمَهاراتِ الفَردِ وقُدْرتِهِ على "تَسويقِ" نَفْسِهِ أو اقناعِ الآخرينَ بفِعْلِ ذلك. هذا لا يَعني بالطّبْعِ أنَّ طريقَ الوُصولِ إلى الحُكْمِ خاليةٌ من العقَباتِ أو حتّى منَ الشُّروطِ التعجيزيّةِ أحيانًا، وإنّما القَصْدُ هو التأكيدُ على أنَّ الحُكْمَ وإدارةَ الشّأنِ العامِّ ليسَ سوى مَسألةٍ تعاقُديّةٍ لفترَةٍ ولهَدفٍ مُحدّدَيْنِ قد يَنتهي أجَلُها قَبلَ المَوْعدِ المتّفَقِ عليهِ إذا أخَلَّ أحدُ طَرفَيْهِ (أو أطرافِهِ) بشُروطِه.

 

الأمرُ مختلفٌ تمامًا في حالةِ الدُّولِ الناشئةِ أو الشّعوبِ التي تَخوضُ مرحلةَ التحرّرِ الوطنيّ، فلا مجالَ للحَديثِ عنْ نظامٍ مُستقرٍّ أو مؤسّساتٍ تَحترفُ إدارةَ شؤونِ الدولةِ، ولا عَنْ قوانينَ مُجرَّبةٍ تَضْمَنُ تَداولَ السُّلطةِ. وهُنا يبرزُ دورُ القائدِ الذي يَخرُجُ عن النّمَطِ التقليديّ كشَخصيّةٍ استثنائيةٍ تَمتلِكُ صِفاتٍ لا تتوفّرُ في الكثيرينَ من عامّةِ النّاسِ، وهي صفاتٌ لا يُمْكنُ اكتِسابُها في المعاهدِ والجامعاتِ كما يَكتِسبُ الطلبةُ أسرارَ مهنةِ الطبِّ أو عِلْمِ الفَلَك. القيادةُ مَلَكَةٌ مُلازِمةٌ لشَخصيّةِ القائدِ تُمكّنُهُ من التَّميُّزِ عن الآخرينَ حتّى دونَ أنْ يَسعى إلى هذا التّمَيُّزِ، وهي مَلَكَةٌ تنمو وتَترَسّخُ كلَّما ازدادت التّجربةُ ثراءً، وكلّما أثبَتَ القائدُ قُدْرتَهُ على الخُروجِ منَ الأزماتِ والتغلّبِ على المَصاعبِ بأقلّ الخسائرِ المُمْكنةِ على طريقِ تَحقيقِ الهدَفِ المنشود. 

 

وُجودُ القائدِ هو حاجةٌ تاريخيّةٌ تفرِضُها طبيعةُ المَرحَلةِ وجَسامةُ المهمّاتِ التي يَسعى الشّعبُ إلى إنجازِها. وهنا لا بُدَّ منَ التّأكيدِ أنَّ شَعبَنا ما زالَ في مَرحَلةِ التّحرُّرِ الوَطنيّ، على الرّغمِ منّ اضّطرارِهِ إلى الدَّمجِ بينها وبينَ مَرحَلةِ بناءِ مؤسّساتِ الدّولةِ بكلِّ ما تَتطلّبُهُ منْ مُمارسةِ أشكالٍ متقدّمةٍ منَ الحُكْمِ والإدارةِ، وذلكَ في ظِلِّ وَضْعٍ استثنائيٍّ تُمليهِ العقباتُ اليوميّةُ التي يَفرِضُها وُجودُ الاحتلالِ وما يقومُ بهِ منْ تَخريبٍ مُتعمَّدٍ لما يتمُّ بناؤه. إنَّ اضّطرارَنا إلى مُمارسةِ السُّلطةِ يَجبُ ألّا يَحجِبَ عنْ أعيُنِنا حقيقةَ أنّنا لمْ نُنجِزْ بَعْدُ أهدافَنا الوطنيّةَ، وبالتّالي ما زِلنا بحاجةٍ إلى القائدِ الذي يُمارِسُ دَورَهُ في كلّ مُهمّةٍ يتمُّ تَكليفُهِ بتَنْفيذِها، ولَسْنا بحاجةٍ إلى جُيوشٍ منَ الإداريّينَ والموظّفينَ، فرئيسُ الوزراءِ قائدٌ وليسَ حاكمًا في دَولةٍ مستقرّةٍ، والوزراءُ قادةٌ كلٌّ في مَجالِ عمَلِهِ، ورئيسُ فلسطينَ/ رئيسُ مُنظّمةِ التَّحريرِ الفلسطينيّةِ قائدٌ لشَعْبِنا يَستَمدُّ شَرعيّتهُ النّضاليّةَ مِنْ قيادتِهِ للشّعْبِ الفلسطينيِّ عبرَ سَنواتٍ طَويلةٍ منْ مَسيرتِنا نحوَ إنجازِ مَشروعِنا الوطنِيّ، ولا علاقةَ لشرعيّتِهِ بانتخابِهِ رئيسًا للسُّلطةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّة، فالسُّلطةُ بكلِّ مؤسّساتِها تستمدُّ شرعيَّتَها من منظّمةِ التحريرِ الفلسطينيّة.

 

*قيادةُ الشّعْبِ في مَرحلةِ التّحرُّرِ الوَطنيِّ هي مَسؤوليةٌ تاريخيّةٌ كُبرى، تَصغُرُ أمامَها مَهامُّ الحُكْمِ وشؤونُهُ اليوميَّة

 

١٩-٨-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان