عند الحديث حول مفهوم السياسة تقفز دائماً مقولة "السياسة فن الممكن"، وفي الغالب تقترن هذه المقولة بشكل أو بآخر بمصطلحات مثل المرونة والمناورة والمراوغة والواقعية، وفي ذات الوقت تشير إلى الابتعاد عن المواقف الحاسمة والقاطعة، وهذا القول إلى حد بعيد فيه الكثير من الوجاهة في فهم هذه المقولة. وقد اختلفت آراء العديد من الكتاب وأصحاب الرأي والعاملين في الشأن السياسي العام في فهم وتفسير هذه المقولة والموقف منها، فيرى البعض أنها تحمل معاني سلبية ذات علاقة بالانهزامية والانتهازية والخيانة والتفريط وتقديم التنازلات، والبعض الآخر يرى فيها المرادف للواقعية، والقيام بما هو ممكن وفقاً للمعطيات والوقائع والمعادلات التي تفرض نفسها في كل قضية. ولكن، ما علاقة هذه المقولة بورشة البحرين؟
الإجابة بكل بساطة، أن أصواتاً بعضها خافت وبعضها خائب وبعضها هامس أو صامت عن قصد، كانت ترى في الموقف الحاسم والقاطع للرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية برفض هذه الورشة ومقاطعتها شكلاً من أشكال الجمود والتهور السياسي وربما "الانتحار السياسي" بوصفه رفض الانحناء أمام العاصفة الترامبية، ولم يتجنب غضب الأطراف المشاركة عرباً وعجماً، خاصة في ظل الواقع الشائك والمعقد الذي تمر به السلطة الوطنية الفلسطينية تحديداً في الجانب المالي بفعل العقوبات الأميركية بوقف المساعدات والقرصنة الإسرائيلية على أموال المقاصة، والتثاقل العربي في توفير شبكة الأمان المالية، ومن وجهة نظر هؤلاء فإن الحضور الفلسطيني كان من شأنه أن يقود إلى تخفيف الضغط الواقع على القيادة الفلسطينية، وفتح الباب أمام معالجة الموضوع الاقتصادي وحلحلة الأزمة المالية، وفي الوقت نفسه فإن الرفض الفلسطيني يكون أكثر قوة من داخل الورشة، ويضع المشاركين أمام الأمر الواقع الفلسطيني، ويبرر هؤلاء موقفهم بأن الورشة لا تناقش الموضوع السياسي ولا أجندة سياسية لها، وتقتصر على الموضوع الاقتصادي الذي هو مصلحة فلسطينية على حد زعمهم، وعليه فهم يطالبون الرئيس والقيادة بالواقعية السياسية وإبداء مواقف أكثر مرونة في التعاطي مع ورشة البحرين، وبالطبع يستحضرون هنا مقولة "السياسة فن الممكن"، ولكن بمفهومها التخاذلي والانهزامي.
من المعروف أن أي عملية سياسية يقاس نجاحها أو فشلها بنتائجها ومخرجاتها، وعلى هذا المستوى فإن موقف الرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية من تلك الورشة هو من قاد إلى فشلها وتأبينها لأنها بالأساس "ولدت ميتة" كما وصفها الرئيس أبو مازن، وبالتالي فالنتيجة عززت من صوابية الموقف الفلسطيني، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التفاصيل والوقائع والمؤشرات التي تؤكد فشل هذه الورشة، ودون الإسهاب فيها، فقد أشارت مقالات عدة  في "الحياة الجديدة" إلى ذلك. أما أن الورشة تقتصر على قضايا اقتصادية ولا أجندة سياسية لها، فيكفي الاستماع لمحاضرة "كوشنير" التي أكد فيها مواقف الإدارة الأميركية السابقة واللاحقة في قضايا القدس التي تعمد إغفال ذكرها، والمستوطنات التي شرعنها بتسميتها مدنا، حتى أنه لم يذكر اسم فلسطين، ولا الدولتين، ولم يشر لمصطلح الاحتلال، إذاً هذه الورشة من ألفها إلى يائها سياسية بامتياز وهدفها الرئيس هو تصفية القضية الفلسطينية فقط لا غير.  
وبالعودة لمقولة "السياسة فن الممكن"، فكلنا يعي ويعرف أن هذه المقولة ركن أساسي في استراتيجية الرئيس أبو مازن، وهو أب الواقعية السياسية الفلسطينية، ولكن الواقعية التي لا تعني في تطبيقاتها العملية القبول بكل ما يعرضه الآخرون، كما لا تعني الاستجابة والإذعان للواقع البائس الذي  يصنعه الآخرون بقوتهم وجبروتهم، وهي المعادلة التي حاول ترامب وفريقه ومعه إسرائيل ومن سار في ركبهم أن يفرضوها على الرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية.
المرونة والواقعية التي طغت على سياسة واستراتيجية الرئيس أبو مازن التي أصبحت صفة ملازمة له وفق مقولة "السياسة فن الممكن"، والتي لطالما كانت محط انتقاد الكثير من العدميين والمتنطعين باعتبارها تفريطا وتقديم تنازلات، كانت تتم في اطار الدوائر المفتوحة التي تسمح بدرجة عالية من المرونة، من حيث القيام بما هو ممكن دون تجاهل الوقائع على الأرض وبقراءة عميقة وموضوعية لخريطة العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية، وبالتالي وضع الخطط والسياسات التي يمكن تحقيقها بما يخدم الهدف الاستراتيجي الذي يعني عدم المساس بالثوابت الفلسطينية، التي تقع ضمن ما يمكن أن نسميه بـ "الدوائر المغلقة" التي تقبل ولا تسمح بأي درجة من المرونة أو المناورة، وتحتاج إلى مواقف حاسمة وقاطعة، وهو ما ينطبق على ورشة البحرين وصفقة العصر. وبالنتيجة النهائية نجد أن التطبيق العملي لمقولة "السياسة فن الممكن" في استراتيجية الرئيس أبو مازن تمثل القاعدة الذهبية التي توازن بين المرونة والواقعية "الدوائر المفتوحة" من جهة، وبين المواقف الحاسمة والقاطعة "الدوائر المغلقة" من جهة أخرى، والإمساك بالخيط الرفيع الذي يربط بينهما.   


بقلم: أنور رجب