بقلم: خالد ابو عدنان

خاص -مجلة القدس العدد السنوي 333

 

لثورة بمعناها العام هي تغيير الواقع وتحريك الساكن واستحداث الجديد وتجديد القديم، إبداع لا يتوقف بلا حدود ولا ضوابط، بل تحرر من كل  القيود في غمار الإيمان بأن هدف الثورة لابد أن يتحقق باستخدام كل الوسائل، حتى الوسائل المخالفة لطرق تفكيرنا وأساليب تعقلنا، لأن الثورة فوضى الوجود في زمن عدمية أركان التواجد، فهي صعود حجارة الوادي لقمة الجبل، وهي سباحة عكس التيار وجنين يرضع أمه ماء الحياة، فلا شيء مستحيل في هذا الكون إلا نعته المفكرون بأنه ثورة. فمن يبحث عن الثبات داخل الثورة كمن يضع العصا في دولاب حركتها ويسعى لجرها لزاوية الجمود التي تعني بداية نهايتها، فالثورة تمرد على ثوابت الأنا لبناء توافق الذات مع جمهورها لترويج البشارة بأن مشعل الثورة ملك لجماهير الثورة وهي المسؤولة عن حمايته والدفاع عنه، هذا المشعل الذي يختصر تمرد الشعب على جلاديه، وأن الشعب قرر أن يقود نفسه نحو الحرية مهما بلغت التضحيات.

شعب الجبارين شعب المرابطين شعب كله زعماء هي بعض أوصاف الشهيد الرمز ياسر عرفات للشعب الفلسطيني، وهي تختصر أن رهان قيادة الثورة على قدرة الشعب على الاستمرار بالثورة بأساليب مبتكرة دائمة التغيّر، وأن الشعب الفلسطيني أكبر من أن يكون ورقة ضغط بل هو من يحدد أوراق الضغط وطرق استخدامها، في مجازفة خطيرة قادرة على تحطيم أي قدرة سلطوية تحاول ضبط الشعب الفلسطيني حتى لو كانت هذه السلطة هي قيادته الشرعية التي يؤمن بها. والسبب المنطقي وراء ذلك أن الشعب الفلسطيني من الشعوب المبتورة من الدولة العثمانية إلا أنها لم تصل لمرحلة الاستقلال السياسي، وهي بذلك تتشارك مع العديد من الشعوب المبتورة في أوروبا وآسيا وتسعى جاهدة للوصول للاستقلال السياسي، فهي إذن شعوب تمتلك مبررات فطرية للتمرد، إلا أن مسألة العصيان الفوضوي ضد قيادة الثورة لا تعتبر جزءا من مفهوم التمرد بل إن العصيان يعتبر حالة مرضية قد تؤدي إلى أمراض أخطر منها مثل انشقاق داخل الثورة أو حتى الوصول لمرحلة الاقتتال الداخلي.

التمرد هو تمرين داخلي يعمل على تنشيط الفعل الثوري دون الالتزام بقواعد الانضباط المسلكي أو الالتزام المنهجي، وهو يبدأ عفويا فرديا ثم ينتقل بالعدوى داخل القواعد والأطر القاعدية حتى يتراكم ويصنع ثورة داخل ثورة مما يجعل القيادة تتبنى فكرته إذا ما ثبت أن هذا الفعل الثوري حقق إضافة نوعية للعمل الثوري، أو أن القيادة لا تعتبره سوى أفعالا فردية غير مضرة وغير نافعة لذا فهي لا تقرر أي عقوبة أو مكافأة للمتمردين. ولعل أشهر المتمردين على قرار قيادة الحركة هو القائد الشهيد أبوعلي إياد صاحب مقولة نموت واقفين ولن نركع، ورفضه الالتزام بوقف إطلاق النار وإعلان الاستسلام، وهي تتكرر بشكل مستمر في كل الأطر الحركية العليا والقاعدية، ترى أن التمرد يتصاعد باستمرار معلناً أن هناك حالة صحية تطالب بتغيير وتصويب المسار وأحياناً كثيرة رفض قرار القيادة. إلا أن القيادة الثورية تسعى دائما لحصر التمرد بمكان وزمان محدد والعمل على تطويق انتشار التمرد داخل صفوف الحركة الثورية، رغم علمها المسبق بأن التمرد داخل الثورة هو القادر على إشعال لهيب الثورة في زمن الجزر الثوري، وأيضاً في فترات التأزم السياسي وأوقات انخفاض شعبية قيادة الثورة.

فقد استحدث الرفيق لينين مفهوم التوجيه السياسي للمقاتلين في مرحلة ابتدائية للثورة البلشفية واعتبرها أساسية في بناء ثقة تبادلية بين القيادة السياسية والقوات الثورية فهي تحمل أفكار القيادة وخططها بعيدة الأمد للثوار في جبهات القتال وهي أيضاً التي ترسم صورة واقعية للمعركة وقدرة المقاتلين على ترجمة القرارات السياسية لفعل ثوري. هذه الصورة في العلاقة تجعل الأفكار السياسية تتحرك وفقاً لقدرتها على مطابقة الفعل الثوري وهذا الأسلوب في العمل يعني أن الثورة بكل مكوناتها تدخل في تمرد مستمر ضد أي فكرة أو مسلكية تقيد المد الثوري وزخم الفعل الثوري، إلا أن الرفيق ماو تسي تونغ ابتكر فكرة التنظيم والنظام في العمل الثوري مما يجعل الفعل العسكري مجرد مهمة نضالية يمكن أن يقوم بها الثائر بشكل مؤقت أو دائم دون  أن تُسقط عنه باقي المهام التنظيمية، بل أن فكرة التنظيم والنظام عملت على تحجيم التمرد داخل الثورة الصينية لدرجة نستطيع معها أن نقول أن التمرد داخل الثورة الصينية كان يعادل العصيان المنبوذ قد يكلف الثائر الكثير لأنه يوصف بالخيانة والعمالة للعدو لرفضه الالتزام بقرارات القيادة السياسية. ومن جانب آخر رفع الرفيق تشي جيفارا من أهمية التنظيم الثوري واعتبار القوات المسلحة لحرب العصابات الجهة التنفيذية لقرارات التنظيم، وأن العمل داخل الأطر التنظيمية هو من يقرر للقوات المسلحة عملها الميداني وبشكل يومي، بل إن الرفيق فيدل كاسترو اعتبر أن البندقية بدون فكر سياسي تعتبر قاطعة طريق للتقليل من أهمية القرار العسكري الذي لا يستند لمرجعية سياسية للتنظيم الثوري. 

أما المهاتما غاندي فله رؤية مختلفة تماماً فهو اعتبر أن الثورة تتمرد على نفسها بشكل يومي كما يتجدد شعر الماعز بشكل يومي فهناك شعر يتساقط وآخر يكبر وينمو وآخر يولد من العدم، لكنه رفض التمرد على طريقة الكوبرا حيث تخلع الأفاعي جلدها بشكل كامل عندما تبني جلدا جديدا أسفل منه، فنظرية شعر الماعز تراكمية شعبوية بمراقبة القيادة بينما نظرية الكوبرا فهي فوقية فجائية لا تخضع لتطور النضال الشعبي وهي مجازفة عالية لا تقدم عليها قيادة الثورة إلا في مرحلة الهزائم المتكررة للثورة. ونظرية الكوبرا لم تطبق خارج القارة الأوروبية وهي لم تحقق انتصارا حقيقيا في أي ثورة إلا أنها من النظريات الثورية التي تدرس مسألة التمرد المبرمج بالاتفاق بين القيادة السياسية والقوات المسلحة، في حين أن نظرية شعر الماعز هي أساس الثورات الشعبية السلمية والعنفية، فقد ذكر مانديلا: أن الجماهير تعلم نفسها بنفسها وقادرة على ابتكار أساليب جديدة كل يوم بل كل ساعة، إن عمل القيادة السياسية يختصر باستثمار ما يمكن أن يحققه الفعل الجماهيري، أما أن تحدد القيادة السياسية الأفعال الميدانية فهو لا يلغي الابداع الثوري فحسب، بل يحول القيادة الثورية لنوع من الاستعمار الذي يكبل حرية الثوار. وفي سياق نفسه قال علي بيجوفيتش: الحسم الحقيقي يعتمد على ما يحققه المقاتلون في الميدان وهم من يحدد شكل الفعل الثوري بين الجماهير التي تتعامل مع المقاتلين بشكل يومي أما تعاملها مع القيادة السياسية يعتمد على قدرة المقاتلين في تحقيق شعبية للتنظيم السياسي، فأنا لست من يقود القوات البوسنية بل أنا من أحمل صفة قائد سياسي يطرح أفكار المقاتلين في الميدان.

لكن السؤال المُلِحْ لماذا يحدث التمرد؟ وما هي أنواعه؟ وما هي أهدافه؟ ففي الثورة  يتم تحديد الأفكار السياسية والأساليب النضالية وأيضا طرق تغيرها وتصويبها، إلا أن التمرد يبقى الوضع الأكثر شيوعا في الثورة مهما كانت مرحلة التخطيط لاندلاع الثورة طويلة لا يمكنها التنبؤ بردات فعل العدو وقدرة الشعب المنكوب على تحملها، كما أن الارتباط بالهيكل التنظيمي للثورة لا يعني الانسلاخ من المجتمع الذي يكون بحاجة ماسة لاستمرار الحياة داخله، فكما يكون من واجب الثائرأداء مهام ثورية يكون عليه مهام اجتماعية وقد يكون مسؤولا عن أسرة ويكون مطالبا بالعمل من أجل قوت عائلته، ومن جانب آخر لا تمتلك قيادة الثورة القدرة على الاكتفاء الذاتي مادامت لم تصل لمرحلة الاستقلال السياسي، فعلى  الرغم من  أنها تحمل صفة شرعية في تمثيل الشعب إلا أنها غير قادرة على توفير كل ما يلزم الشعب لإنها لا تملك السيادة على الأرض بشكل يؤهلها لإدارة الشؤون الحياتية للشعب، أما إن استطاعت الوصول إلى ذلك فهي تكون قد حققت الانتصار وأنهت مرحلة الثورة وبدأت مرحلة الحزب الحاكم.

فالتمرد لا يحدث إن استطاعت القيادة السياسية  رسم خطة قابلة التحقيق وتدريب الثوار على أساليب لتنفيذ الخطة، وهذا يكون الوضع المثالي إذا ما تمكنت القيادة السياسية من التنبؤ بردات فعل العدو والقدرة على مقاومتها ورسم خطط بديلة وأخرى احتياطية ليكون الفعل الثوري المرحلي متوافقا مع الهدف السياسي المرحلي، ولم تصل أي ثورة معاصرة لهذه الدرجة المثالية، بل أن قيادات جبهة نمور التاميل في مخيماتهم في ماليزيا أقروا أن أحد أهم أسباب فشل ثورتهم كان التخطيط المركزي للعمليات العسكرية وإهمالها لردات الفعل الشعبية المؤيدة للثورة، بل إن القيادة السياسية لم تتبنّ أي فعل جماهيري تلقائي واعتبرته جزءا من فوضى شعبية لا تنضبط إلا بالانضمام لصفوف الجبهة والعمل وفق خطة عمل مدروسة من القيادة. ومن جانب آخر اعتبر الكابتن الفيتنامي جياب: أن اختراق الثورة بالعملاء كان كثيفاً لدرجة أننا أصبحنا نخشى أي تمرد نافع قد يخدم الثورة، وأنني كنت أعرف أن بعض من تم قتلهم بصفة عملاء وخونة كانوا ثوارا متمردين وهدفهم تنشيط الفعل الثوري، وقد حاولت جاهداً التخفيف من مركزية القرار وإفساح المجال للقيادة الميدانية لاتخاذ القرارات اليومية لكنني كنت أخشى من أن نفقد الوحدة التنظيمية للجبهة، ومهما كانت التمردات مهمة بثورات أخرى إلا أنها حافظت على كيانها داخل جسم الثورة وهياكلها التنظيمية وكلها تحمل لغة واحدة وتعمل وفق خطة واحدة.

كما أن المراحل الأولى لبدايات الثورة تكون متمردة على شعبها وطرق تعامله مع الاحتلال وظروفه المعيشية، لذا فالثورة تبحث عن ثوار رافضين كل الموجود ومستعدين لتدمير كل القواعد بهدف خلق واقع جديد يخرج الشعب من حالة السكون والسكوت إلى حالة الفوران والتجدد، وهؤلاء الثوار لهم صفات الطلائع الثورية القادرة على تحويل مسار التاريخ وتغيير كل المفاهيم والقناعات لدى عامة الشعب. ولعل الوصف الدقيق لها يكون بكلمات الأخ الشهيد أبو إياد صلاح خلف: غير أن مهمتنا الرئيسة في خريف عام 1959، لم تكن كسب قطاعات واسعة من الرأي العام لوجهات نظرنا، وإنما إنهاض منظمة صغيرة من الطلائع الثورية التي ستتيح لنا شن الكفاح المسلح وأن نصبح حركة جماهيرية. وابتكرنا فكرة جهازين أحدهما عسكري والآخر سياسي على النمط الهرمي.

إلا أن استمرار الثورة يقتضي توسيع دائرة الثورة حتى لو كان هذا التوسع خارج إطار الحركة الثورية، فلا يوجد حق حصري لمقاومة الاحتلال فكل الشعب وأنصار ثورته لهم الحق في المشاركة بالفعل الثوري، هذا تمرد الفكرة على من ابتدعها لأنها أكبر من أن تختصر بالأنا لتتوسع لتشمل كل الذات المتمردة، وقد أحسن وصفها الأخ الشهيد أبوجهاد خليل الوزير: إن داخل كل مواطن مشروع فدائي وداخل كل وطني مشروع كادر أو قائد، وأن واجبي يحتم علي أن أمنح هذا المشروع الفرصة الكاملة للنمو والتطور والاكتمال. من هنا كان إيماني العميق بمبدأ إطلاق المبادرات الخلاقة للشباب، وتفويض الكوادر في صلاحيات القيادة، وإفساح المجال لهذه الكوادر لان تقود بمقدار كفاءتها وليس بمعيار ولائها.

كما أن هناك تمرد الإرادة الشعبية على القرار القيادي إذا لم يكن القرار القيادي شمولي لتطلعات الجماهير، فوحدة الجماهير الشعبية لها قوة الإعصار الجارف القادر على إعادة صياغة القرار القيادي خصوصاً إذا ما كانت الثورة مكونة من فصائل وجبهات متعددة، فلا يكون القرار القيادي توافقيا بين فصائل الثورة بقدر أن يكون تمثيليا للإرادة الشعبية، فمعيار صوابية القرار القيادي يقاس بقدرته على تبني تطلعات الجماهير وترجمته لبرنامج عمل سياسي قادر على توجيه الفعل الشعبي نحو الدفاع عن قرار القيادة الثورية حتى  لو لم يكن يحظى بإجماع فصائل وجبهات الثورة. ولهذا النوع من التمرد شرح تقدمي رائع للأخ الشهيد كمال عدوان: تعتمد حركة الثورة في تكوينها على تفاعل جماهيري في القاعدة، وبالطريق الطبيعي لهذا التفاعل تتبلور المفاهيم ويزداد الترابط وتولد القمة، قمة هذه القاعدة من بين شبابها الذين عاشوا وتفاعلوا معها، هذا الطريق الطبيعي والسليم لبناء الثورة على أن يتحقق لها شمول الجماهير الفلسطينية كلها في تنظيم واحد مترابط بقيادة واحدة تجعله قادرا بفاعلية أكبر، وتضع حدا للتمزق الداخلي الذي تعيشه الجماهير بولاءاتها المتعددة. أما أن نبقى على سياسة علوية للتوفيق بين الفصائل والتكتلات الفلسطينية فهذا يعني أن سياستنا ليست جماهيرية شمولية، ليتحول قرار الثورة من قرار الشمول الجماهيري إلى قرار وحدة الشراذم التي يرفضها كل منطق سليم وهكذا ترى الحركة أن أي لقاء علوي من هذا النوع مشروط لن يكون فيه  من المتانة والقوة  ما يستطيع أن يتلاءم مع مستوى التضحيات وقسوة المعركة وطموح الجماهير، فالقرار الشمولي للثورة لا يقتصر على العناصر التي تطرح نفسها في الساحة الفلسطينية الآن، لكنه يتسع ليضم كل الذين يمكن أن يشتركوا في المعركة إذا ما توفر لهم وضوح الرؤيا وإعطائهم حق المشاركة بصياغة قرار الثورة.

وهذا يدفعنا للحديث عن تمرد الكينونة الخاصة على الثورة الجامعة، فمهما كان الشعب الفلسطيني عربياً يتفاعل مع كل الظروف السياسية العربية التي تجذبه يميناً تارة ويساراً تارة أخرى، إلا أنه بالنهاية يحدد خياراته بأنها وطنية قطرية ذات امتداد قومي رغم كل الضغوطات التي تطالب الثورة الفلسطينية بضرورة الاصطفاف مع جهة ما بالوطن العربي الكبير ضد جهة أخرى، بل إن الامتناع من تحديد رأي الثورة الفلسطينية في قضايا الخلافات العربية يجعل بعض الأنظمة العربية تصنفها بأنها تتمرد على نفسها وتعمل ضد تطلعات شعبها. فيكون تبرير الثورة بأنها ثورة وطنية تواجه العدو الصهيوني عدو الأمة العربية وعلى الكل العربي دعمها والحفاظ على وحدتها الداخلية. هذه المكاشفة الثورية التي تطالب القيادة العربية بتحمل مسؤولياتها كما قالها لهم الأخ الشهيد أبو يوسف النجار: إن وحدة الساحة الفلسطينية لا نريدها ستارا تهاجم الثورة من خلفه، أو ذريعة لعدم تحمل المسؤوليات، ومن حقنا أن نتساءل لماذا لا يكون هناك وحدة عربية بينكم أنتم المجتمعون هنا اليوم، فضلا عن أن هناك أسباباً رئيسة حالت دون تحقيق الوحدة المطلوبة للساحة الفلسطينية، منها عبثكم أنتم في الساحة الفلسطينية وتدخلكم فيها، مما يؤدي إلى عرقلة وحدة الساحة وتمزيقها، علما بأن منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم كافة الفصائل المتفقة على برنامج عمل سياسي واضح ومحدد، هي التي تمثل وحدة الصف الفلسطيني.

ومن جانب آخر هناك تمرد لحماية الثورة ورفض تحجيمها من قبل الأنظمة العربية التي تسعى لبسط سيطرتها على قرار الثورة وإعادة توجيه فعلها الثوري ليتماشى مع مصالحها الخاصة دون النظر العميق أن الثورة لها إرادة شعبية ترفض الوصاية العربية كما أنها ترفض قرار قيادة الثورة إذا لم يقم بالرد على التدخلات العربية في قرار الثورة، وأكثر من هذا ترجيح كفة فصيل على آخر داخل الثورة لا لأنه أكثر شعبية بل لأنه يستغل عواطف الجماهير الغاضبة، فيكون واجباً على الثورة أن تتمرد على ذاتها وتقترب من نبض الشعب المطالب بضرورة الرد بعنف لحماية الثورة وكرامة الشعب. ومن أكثر الأمثلة شهرة بهذا النوع المتمرد ذكره الأخ الشهيد أبو داود: إن التبرير المعلن لاغتيال وصفي التل كان الثأر لأبوعلي إياد، فيسهل تحليله إذ إن أبو إياد لم يكن لينسى أحد مشاغلنا الأساسية وهي منع الرفاق الأوفياء للزعيم العسكري الكبير المغدور من الالتحاق بمنافسينا في الفصائل الأخرى.

أما تمرد الوسيلة المستخدمة في تحقيق هدف الثورة على فكرة الثورة، فهو الشغل الشاغل لكل الثورات في العصر الحديث، فلا يوجد أسهل من كلمة الكفاح المسلح الطريق الحتمي والوحيد لتحرير فلسطين، وهي ليست فكرة مبتكرة لحركة فتح، بل أنها  تعود إلى ثلاثينيات القرن المنصرم في عهد الانتداب البريطاني لفلسطين، إلا أن استخدام وسيلة واحدة لتحقيق الهدف تتناقض مع شمولية الثورة لكل أبناء الشعب الفلسطيني، الذي يبتكر وسائل متنوعة لرفض الاحتلال إلا أنه على قناعة تامة بأن العدو الصهيوني يعتمد بشكل أساسي على تفوقه العسكري ويرفض أي حل سياسي يضعف تفوقه العسكري، مما يدفع الجماهير الشعبية للبحث عن وسائل ثورية قادرة على رفض الهيمنة العسكرية الصهيونية، فإذا كان العدو الصهيوني يتعامل مع الفعل الثوري السلمي بقوة العتاد العسكري، فهذا يدفع القواعد الثورية لرد العنف بالعنف المضاد. ولكن العالم الغربي يجد صعوبة بتصديق هدف الثورة الفلسطينية لأن الآلة الإعلامية الصهيونية تقوم بطمس الحقيقة وتسويق الثورة الفلسطينية بأنها أعمال إرهابية ضد الحضارة الأوروبية وممثلها بالشرق الأوسط دولة الكيان الصهيوني. وهذا كان يتطلب شرح هدف الثورة والوسائل التي تستخدمها لتحقيق هدفها وتبيان أن دولة الكيان الصهيوني عبارة عن قوة استعمارية كما شرحها الأخ الشهيد خالد الحسن: أعتقد انه حان الوقت كي نستخدم عقولنا وأخلاقنا وثقافتنا بشكل صحيح في حكمنا على الأحداث كي نستطيع فهم مشكلات الآخرين وحقوقهم فهما صحيحا، ونقدم لهم العون لاستعادة هذه الحقوق بشكل سليم. إننا نعرف أن أي ظلم يقع على الشعب يولد الفعل المقاوم لهذا الظلم. وأي احتلال يولد مقاومة هذا الاحتلال، وكلما ازداد شعور هذا الشعب بالظلم والإحباط ازداد حجم ممارسته للعنف الذي يصل إلى النضال المسلح، ونفس الشيء إذا وصل الشعب إلى حالة اليأس من تحقيق العدالة بالوسائل السلمية. أما إذا أشرق الأمل في تحقيق الأهداف سلما ازداد تبنيه للوسائل السلمية.

كما أن أصعب التمردات هي تمرد الحرية على التحرير فكما أن الثورة تهدف إلى تحرير الأرض من الاحتلال فهي أيضاً تسعى لتوسيع مدارات الحرية في الشعب المضطهد، فالاحتلال يخلق عبودية لقراره العسكري ومن يرفض قراره يكون مصيره القتل مما يدفع الشعب إلى الانصياع للأوامر العسكرية حتى يحافظ على حياته، مما يفقده حريته بالتعبير عن رأيه أو حتى حقه برفض القرار العسكري، ويتصاعد هذا الرفض ليشمل رفض الحوار مع العدو الصهيوني ورفض مكوناته الاجتماعية ورفض كل أطروحات التعايش والبحث عن حل وسط يحقق الحد الأدنى من التوافق بين هدف الثورة بتحرير الأرض وقدرة الثورة على تحقيق هدفها، فلا يوجد ثورة تستمر للأبد ولابد أن تصل بالنهاية لطاولة المفاوضات وتطرح مشروعها الوطني ولابد أن تقبل أن هناك طرفاً آخر له مشروع مغاير لابد من مناقشته وتفهم ظروفه، وقبل كل هذا علينا أن نعرف عدونا بشكل واضح ونحدد شكل العلاقة معه. لعل هذه الأفكار قد تكون عادية في الوقت الحالي إلا أنها مطروحة منذ أن كانت الثورة في لبنان في سبعينيات القرن المنصرم، فقد كتب الأخ الرئيس محمود عباس:ما هي الحكمة من منع كل صحفي أو كاتب أو ناشر كتب مقالا ضدنا أو كتب موضوعا يمتدح فيه إسرائيل، وسواء أكانت كتابته هذه عن قناعة أو تضليل؟ ان الادراك السليم يقضي أن لا يسمح لهم بدخول بلادنا فحسب بل أن توجه لهم الدعوات لزيارتنا. وطالما أننا نثق بعدالة قضيتنا وسلامة منطقنا فيجب أن لا نخشى شيئا سواء عدلوا من مواقفهم أو أصروا عليها. فليس مهماً أن نحافظ على الأصدقاء وإنما الأهم أن نحيد الأعداء أملا في اكتسابهم إلى جانبنا يوما، ولا يتأتى لنا هذا إلا بالحوار والمنطق والقناعة. لا بد أن تنتهي أساليب الجهل والتجهيل، ووسائل الغفلة والتغفيل. ولا بد أن يثق الحكام بأنفسهم أولا وبشعوبهم ثانيا وأن يعرفوا أن المعرفة هي طريق النضال الصحيح.

أما تمرد ردة الفعل الشعبي الثوري على الفعل الثوري الفردي فهو لا يشكل تبني القيادة السياسية له بقدر ما يعني أن القيادة السياسية للثورة تحمل العدو الصهيوني مسؤولية رفضها لإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، فكما أن عمليات الطعن بالسكاكين هي عمليات فردية رافضة للاحتلال الصهيوني وممارساته الهمجية بحق أبناء شعبنا إلا أن مظاهرات تشييع جثامين هؤلاء الشهداء تحظى بتبنٍّ علني لأعمالهم من قبل الجماهير الشعبية والتنظيمات الثورية، لأن القاعدة الثورية تؤكد أن حق الشعب بمقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة تعني أن كل الخيارات تبقى مفتوحة أمام الشعب المناضل، وإن كان هذا يخلق فوضى الفعل كما يتصور البعض إلا أنها تحدد أن الشعب هو من يقرر طرق مقاومته للاحتلال، وأن مسألة ضبط النفس للقيادة السياسية سعيا منها بتحقيق تقدم بالعمل التفاوضي لا تكون مقبولة جماهيريا في ظل التعنت الصهيوني واستمرار همجية قوات الاحتلال الذي يستفز الشعب بشكل يومي ويقوم بالقتل بدون محاكمة ويقوم بالاعتقالات التعسفية ومصادرة الأراضي. فهذا التمرد اليومي للشعب الفلسطيني جاء ليقاوم ممارسات العدو التعسفية الرامية لاستمرار الاحتلال العسكري.

إن التمرد بكل أشكاله وأنواعه يعتبر جزءا مهما من الفعل الثوري العام للشعب المناضل، وهو الجزء الخارج عن السيطرة لأنه يتقدم على كل فعل ثوري منظم لأنه يرفض النظام والتنظيم ويكسر قواعد اللعبة السياسية ليطرح ضرورة التجديد العملي لمنهاج الثورة، فكما أن الشعب يرفض الاحتلال فهو أيضاً يرفض من يحاول منعه من مقاومة الاحتلال بدون وجود أفق سياسي لحل قريب، وبهذا يكون التمرد الشعبي أكبر دافع لضرورة تنشيط العمل السياسي لمحاصرة التعنت الصهيوني وإفقاده القدرة على مقاومة تطلعات الشعب بالحرية والاستقلال، ويكون لزاماً على قيادته الثورية استثمار التمردات الشعبية الفردية والجماهيرية لتحقيق تقدم حقيقي في مشروعنا الوطني لتصل لمرحلة توافق بين الإرادة الشعبية والقرار القيادي السياسي، وإلا فإن حجم التمردات سيزداد ويصل لمرحلة الانفجار الكامل. وهي مرحلة تفتيت لبعض أجزاء الثورة وإعادة تشكيل لعملها التنظيمي بهدف خلق توافق بين قدرة الشعب على ابتكار وسائل نضالية جديدة وقدرة القيادة السياسية على استثمارها، فالمقياس الحقيقي للإرادة الشعبية ليس بقدرته على قبول التمرد الفردي بل على عدم قدرة القيادة السياسية على استثمار ردات الفعل الجماهيرية المصاحبة للتمرد الفردي.