- التحريض الإسرائيلي والداخلي ضد «أبو مازن» يتشابه مع ما قبل اغتيال «أبو عمار»
بقلم هيثم زعيتر
يوماً بعد آخر تترسخ حقيقة اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات «أبو عمار» بـ «السم»، وتورّط أجهزة المخابرات الإسرائيلية بذلك، حيث تتكشّف حقائق ومعطيات جديدة، تؤكد جريمة اغتيال الرئيس الذي استشهد بتاريخ 11 تشرين الثاني 2004 في «مستشفى بيرسي العسكري» في فرنسا...
فبعدما كانت هناك معلومات وشُبهات عن قيام الاحتلال الإسرائيلي بجريمة الاغتيال، بدأ يتأكد ذلك عبر جملة من الأدلة، في طليعتها:
- إعادة تسليط الضوء على أسباب الوفاة، بعدما خلص «معهد الأشعة الفيزيائية» في لوزان إلى عثوره على «كمية غير عادية من البولونيوم»، بعد تحليل عيّنات بيولوجية من الأغراض الشخصية للرئيس «أبو عمار»، سلّمها المستشفى الفرنسي إلى أرملته سهى، فحضرت مجموعة من الخبراء السويسريين والروس والفرنسيين إلى رام الله، قامت بأخذ عينات من الرفات بتاريخ 27 تشرين الثاني 2012، مع مراقبين ومشرفين فلسطينيين.
- النفي الفلسطيني لما يسعى له اليوم البعض للتشويش من خلال استباق نتائج الفحوص، واتهام «السلطة الوطنية الفلسطينية» بتأخير الإفراج عن النتائج، بادّعاء نُسب إلى مسؤول فلسطيني مجهول الهوية، أن نتائج التحاليل أسفرت عن خلو العينات من مادة «البولونيوم 210» وفق ما نقلته كافة الأنباء الصينية «شينخوا»، الأمر الذي سارعت «السلطة الفلسطينية» إلى نفيه، مؤكدة أن النتائج لم تصدر بعد.
- اعتراف الكيان الصهيوني للمرة الأولى بضلوعه في عملية الاغتيال، بعد 8 سنوات على استشهاد «أبو عمار»، وعلى إثر إرسال فريق الخبراء لإجراء تحاليل على الرفات، وقبل إجراء انتخاب الكنيست، حيث جاء ذلك على لسان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، الذي قال: «ما كان ينبغي اغتيال ياسر عرفات، وأظن أنه كان بالإمكان التعامل معه، ومن دونه كان الوضع أصعب وأكثر تعقيداً». وهو ما يعتبر دليل جديد يُضاف إلى ملف القضية، يجب تثبيت أقواله أمام لجان التحقيق.
ولا يُخفى للمتمعن في شؤون الساحة الفلسطينية، أن الظروف التي يعيشها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الوقت الراهن، لا تختلف كثيراً عن تلك الظروف التي عاشها الرئيس «أبو عمار» في الفترة التي سبقت استشهاده. فقبل اغتيال الرئيس «أبو عمار» شهدت الساحة الفلسطينية جملة من الأحداث منها: تدنيس وزير الدفاع الإسرائيلي شارون لباحات المسجد الأقصى (28 أيلول 2000)، واندلاع «انتفاضة الأقصى»...
واليوم يقوم المتطرّف الصهيوني أفيغدور ليبرمان، بالتحريض الداخلي والخارجي ضد الرئيس «أبو مازن»، وهو ما يعني أن حياة الرئيس «أبو مازن» أصبحت في خانة الاستهداف، وبشكل أكثر بعد أن كرّس عضوية دولة فلسطين، باعتراف «الأمم المتحدة» بتاريخ 29 تشرين الثاني 2012...
كل هذا، لم يثنِ الرئيس عباس عن الإصرار لمواصلة التحقيقات لكشف الحقيقة بشأن اغتيال الرئيس «أبو عمار»، صديقه ورفيق دربه في المسيرة النضالية، إذ أنه، وبعزم وإصرار وخطوات ثابتة، يمضي ليذوب الجليد، وتنجلي الرؤية، لينال الفاعل قصاصه، وبتوجيه الملف نحو «محكمة الجنايات الدولية»، لأنها جريمة دولية...
لم تكن المرة الأولى التي حاول الاحتلال الإسرائيلي فيها اغتيال الرئيس ياسر عرفات (محمد ياسر عبد الرؤوف القدوة الحسيني)، المولود بتاريخ 4 آب 1929، والذي اشتهر باسم «أبو عمار»، بل كانت المحاولة الأخيرة والناجحة بواسطة «السُّم»، والتي أودت بحياته، حيث فاضت روحه الطاهرة إلى باريها بتاريخ 11 تشرين الثاني 2004 في «مستشفى بيرسي العسكري» في ضاحية كلامار الباريسية في فرنسا.
محاولات الاغتيال
تعرّض الرئيس «أبو عمار»، لـ 30 محاولة اغتيال في السابق، وكان في كل مرة ينجو منها، وهذا ما كشفه لنا أحد المقرّبين جداً من الرئيس الفلسطيني من أنّ الاحتلال الإسرائيلي حاول اغتيال الرئيس عرفات أكثر من 30 مرة، كان من بينها محاولتان عبر «السُّم»:
- الأولى: في سبعينيات القرن الماضي في بيروت، حيث نجحت الاستخبارات الإسرائيلية بتجنيد أحد العاملين في مكتب «أبو عمّار»، ويُدعى هانـي أبو السعيد، وسـلّمته «السُمّ» لدسّه في طعام أو شراب «أبو عمّار»، وبقي بحوزة «أبو السعيد» لعدة أشهر، إلى أنْ تمَّ اكتشاف أمره، حيث أُعدِم في بيروت.
وهذه بعض من تفاصيل الرواية... «حاول «الموساد» الإسرائيلي في إحدى المرات اغتيال الرئيس عرفات، عبر وضع نقاط من مادة سامة في الطعام أو الشراب الذي يتناوله، فتؤدي إلى وفاته بعد أشهر من دون أن يشعر أحد بذلك، إذ إن تشريح الجثة سيثبت أيضاً بأن الوفاة بفعل سكتة قلبية أصيب بها، الأمر الذي ذكر أنه حصل مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الـذي وافته المنية بتاريخ 28 أيلول 1970، وكانـت تلـك العمـلية سـتنـفذ مـن خلال أحد ضباط الإدارة العامـلـين في مكتب «أبو عمار»، ويـُدعى هـاني أبو السعيد، وكـان عـلى ملاك جهاز أمن الـ 17، الـذي يــرأسـه عـلي سـلامـة «أبو حسن»، وتم اكتشاف أمره، بعدما كلف الجهاز الأمنـي للثـورة الفلسـطينية، أحد مسؤوليه، الاتصال بأحد المتعاونين معهم من داخل جهاز «الشعبة الثانية» اللبنانية، وطلب إليه تسليمه مُستنداً لأحد المخبرين عن الثورة الفلسطينية، ليتم إعدامه ليكون عبرة ورادعاً لغيره، بعد تنامي حالة المتعاونين مع «الشعبة الثانية»، فعاد إليه بعد أيام بورقة، وأشار إليه أن كاتبها يحمل الرقم 52، وهو موجود في مقر القائد العام للثورة الفلسطينية «أبو عمار».
بعدها سُلم الملف إلى عبد الله لبيب «أبو طارق» المعروف بلقب «هواري»، طلب إحضار ذلك الضابط، فأجلسه في مكتبه، ثم سأله عن الجهاز الذي يعمل لصالحه، فهمّ «أبو السعيد» بالوقوف مستنفراً قائلاً: «أرفض هذه الاتهامات...»، فسارع «هواري» بحنكته ودهائه بقذف ورقة إليه مكتوبة بخط يده – وهي تقرير كان قد زوّد به «الشعبة الثانية»، فصُدم «أبو السعيد»، وقال: «هذه كانت غلطة، وتلك كانت الرسالة الوحيدة». إلا أن «هواري» كان قد وضع تلك الورقة فوق مجموعة ملفات خاصة به، لإيهامه بأن تلك الأوراق هي التقارير التـي كان قد أرسلها... الأمـر الذي أثـار إربـاك «أبو السعيد»، وساهم باستدراجه في الكلام، فسرد «أنه بعـد أيلول الأسود 1970 في الأردن، جرى تجنيدي لـصالح المخابـرات الأردنية من قبل ضابط فيها، ولكني أوقفـت تعامـلي معـهم»، فاسـتدرك «هـواري» بــأن «أبـو السعيد» مُتورط في عدة أمور، فقال له: «أنا لا أتحدث عن المخابرات الأردنية، هذه يُمكن أن أساعدك فيها إذا اعترفت بالحقيقة، فما لا تريد أن تتحدث به موجود معنا بين هذه الأوراق». عندها قرر «أبو السعيد» أن يكشف عن أول خيوط تعاونه مع «الموساد» الإسرائيلي، بالقول: «كنت أتردد على مقهى «الويمبي» في الحمرا، (هذا المقهى الذي شهد أول عملية لـ «جبهة المقاومة اللبنانية» ضد الاحتلال الإسرائيلي في بيروت، على يدي خالد علوان بتاريخ 24 أيلول 1982)، وتعرّفت إلى فتاة تُدعى ليلى الحلبي، كنت قد وقعت في غرامها، وأقمت معها علاقة حميمة، ولكن قامت بتسجيل شريط مصور لنا بأوضاع محرجة، وهددت بتسليمه إلى «أبو حسن» سلامة، واستغلاله ضدي، قبل أن تصلني بضباط في «الموساد» الإسرائيلي، وانتقالي بعد ذلك إلى تل أبيب وتكليفي بعد ذلك بوضع «السُّم» في طعام أو شراب الرئيس «أبو عمار»، ولكنني لم أفعل ذلك». وأحبطت بذلك عملية الاغتيال، بعدما عثر على «السُّم»، الذي كان قد وضع في أنبوب، خصصت له تجويفة في فرشاة للشعر.
- الثانية: في كانون الأول 1977، حيث أشرف رئيس الوزراء الإسرائيلي - آنذاك - مناحيم بيغن على وضع خطة مشتركة بين جهازي الاستخبارات العسكرية و«الموساد»، تقـضي بـدس «السُّـم» لـه فـي أحـد أكـواب المـاء، وهـو ما يُبعد الأنظار عن الإسرائيليين، الذين علِموا أنّ الرئيس «أبو عمّار» سيزور الصين، فتمّ إرسال خلية إسرائيلية إليها بجوازاتٍ أوروبية، لاستطلاع تنفيذ الخطة، وأعلن بيغن «أنّ هناك عملية إسرائيلية كبرى ضد الفلسطينيين»، وكان يُتوقّع أن يكون عدواناً ضدَّ لبنان أو سوريا، لكنّ الفريق العسكري الإسرائيلي بقي في الصين يُتابع تفاصيل الزيارة وبرنامجها، وعندما أُعلن أنّ الرئيس «أبو عمّار» قد أجّل الزيارة إلى أجلٍ غير مُسمّى، أُعيد فريق التنفيذ من هناك، وبُوشِر الإعداد لمخطط جديد لاغتياله.. لكنَّ المفاجأة كانت أنَّ الرئيس «أبو عمّار» قد قام بالزيارة المحددة سلفاً إلى الصين، وفي موعدها المتفق عليه، ووفق البرنامج الذي كان مُعدَّاً لها، ما أصاب الإسرائيليين بصدمة وخيبة أمل.
إرساء سياسة المقاومة
في العام 1964، أرسى الرئيس ياسر عرفات مع قيادات حركة «فتح» سياسة تعتمد البدء بمقاومة مُسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته قام بتجييش الرأي العام العربي لصالح القضية الفلسطينية. كما بعث روح الكفاح والمقاومة، والاعتماد على الذات بين صفوف الشعب الفلسطيني، حتى تحوّل من شعب مشرّد في المنافي يستجدي رغيفه من الوكالات الدولية، إلى شعب محارب يأخذ مصيره على عاتقه، وكان لهذه السياسة تأثير كبيرٌ على وعي الشعب الفلسطيني وتشكيل هويته الوطنية.
وفي هذا الإطار قامت حركة «فتح» بسلسلة من العمليات الفدائية ضد مراكز الاحتلال الإسرائيلي، كانت طليعتها بتاريخ 1 كانون الثاني 1965، التي أرّخت لانطلاق الثورة الفلسطينية، وحملت إسم «عملية عيلبون» واستشهد فيها أحمد موسى الدلكي، وتهدف إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة فلسطينية علمانية يعيش فيها جميع أهل فلسطين بمختلف دياناتهم وطوائفهم، متساوين في الحقوق والواجبات.
بتاريخ 4 شباط 1969 انتُخب رئيساً للجنة التنفيذية لـ «منظمة التحرير الفلسطينية»، التي كان قد أُعلن عن تأسيسها في «الميثاق الوطني» في حزيران 1964، والذي يُعلن «الكفاح المسلح» وسيلة وحيدة لتحرير فلسطين.
حمل «أبو عمار» على عاتقه الاعتراف بدولة فلسطين، فلم يترك منبراً لذلك إلا وقصده، فتوجّه إلى «الأمم المتحدة» التي ألقى فيها خطابه الشهير خلال عقد الجمعية العامة في نيويورك بـتاريخ 13 تشرين الثاني 1974، التي وافقت على منح مقعد كيان مراقب لـ «منظمة التحرير الفلسطينية».
وأبـرز ما قاله فـي خطابه الذي توجه به إلى العالم: «أتحدث أمامكم وقد أصبحت هيئة الأمم المتحدة تمثل 138 دولة». وعبارته الشهيرة: «لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون مع بندقية ثائر.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي». كذلك رفض خطة تقسيم فلسطين التي أقرّتها «الأمم المتحدة». وضرب مثلاً على قرار التقسيم بالمرأتين اللتين تنازعتا على أمومة طفل عند الملك سليمان، وشبَّه موقفه بموقف المرأة التي رفضت تقسيم ابنها، ليوضح أحقية الفلسطيني بفلسطين ومكانتها من حياته. كذلك أوضح في خطابه عدم عدائه لليهود، إنما هو يُعادي الصهيونية.
وبفضل ما أعلنه الرئيس «أبو عمار» في «الأمم المتحدة»، أدانت الجمعية العامة لـ «الأمم المتحدة» العقيدة الصهيونية كنظرية عرقية وشكلٍ من أشكال التمييز العنصري، ثم اتسعت رقعة الاعتراف الدولي بـ «منظمة التحرير الفلسطينية» بعد أن أصبحت عضواً مراقباً في الهيئة الدولية، فوافقت اليابان على فتح مكتب للمنظمة في طوكيو، ورفعت فرنسا الحظر عن سرّية اتصالاتها بالمنظمة، وسمحت لها بإقامة مكتب إعلامي علني في باريس، ولحقت بها كل من ألمانيا الغربية والنمسا وإيطاليا وبلجيكا والسويد، وغيرها. كما تطوّر وضع المنظمة ووزنها في إطار الحوار العربي - الأوروبي، أما في عالمي «المنظومة الاشتراكية» ودول «عدم الانحياز»، فتعزز وضع المنظمة وتبوأت مكانة «الدولة» ابتداءً بالمراسم، وانتهاءً بحقوق العضوية الكاملة والحق في إشغال كل المناصب. كذلك انتزع الفلسطينيون القرار رقم 336.
انجازات سياسية
ذروة الانجاز السياسي، توّجت باعتماد الدورة الـ 19 لـ «المجلس الوطني الفلسطيني» في الجزائر بين 12-15 تشرين الثاني 1988، «وثيقة إعلان الاستقلال»، التي تلاها الرئيس عرفات بنفسه. وإطلاق «أبو عمار» مبادرته للسلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، التي كان قد أقرّها «المجلس الوطني الفلسطيني»، وتعتمد إقامة دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلت عام 1967 تعيش جنباً إلى جنب، مع دولة «إسرائيل»، وبناء عليه فتحت الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان حواراً مع «منظمة التحرير الفلسطينية»، حيث نظر المسؤولون الإسرائيليون بكثير من التوجس والقلق، إلى السياسة التي اتبعها عرفات.
بعدها توجه إلى «الأمم المتحدة» ثانية بتاريخ 13 كانون الأول 1988، بعدما اتخذت الجمعية العامة لـ «الأمم المتحدة» قراراً شجاعاً بنقل أعمالها، في ما يتعلق ببند فلسطين من مقرها في نيويورك إلى مقرها في جنيف، بموافقة 154 عضواً من مجموع أعضائها (الأغلبية العظمى)، حيث ألقى «أبو عمار» فيها خطاباً تاريخياً أيضاً.
في الوقت الذي كان «أبو عمار» في حيرة، يوازي حسنات الاستجابة للطلب الأميركي وسيئاتها. عقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه مجدداً إدانته لـ «الإرهاب» والقبول بقرار «مجلس الأمن» 242. وطار إلى فيينا وبينما هو في الجو، كان المدير العام للدائرة السياسية لـ «منظمة التحرير الفلسطينية» «أبو جعفر» يتصل برئيس الدائرة فاروق القدومي «أبو اللطف»، ليخبره بأن السفير الأميركي في تونس، أعلن قرار الحكومة الأميركية رفع الحظر عن الحوار مع المنظمة، وعن رغبته في لقاء مسؤولين في المنظمة.
بتاريخ 13 أيلول 1993، وقّع «اتفاق أوسلو» بين «منظمة التحرير الفلسطينية» و«إسرائيل» برعاية أميركية.
بتاريخ 12 تشرين الأول 1993 اختار «المجلس المركزي الفلسطيني» «أبو عمار» رئيساً لـ «السلطة الوطنية الفلسطينية».
بتاريخ 1 تموز 1994، عاد إلى أرض الوطن – غزة، حيث استقبل استقبال الفاتحين لحظة وصوله إلى القطاع.
بتاريخ 13 أيلول 1995، وقّع عرفات ورابين في واشنطن على «اتفاقية الوضع المؤقت» التي مهّدت الطريق لإعادة انتشار قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، وبعد لقاءهما أبلغ رابين - عرفات «إنني سأفصل بيني وبينكم بشكل نهائي»، فاستوضح «أبو عمار» عن معنى ذلك، فأجابه رابين: «سيكون لنا دولة ولكم دولة».
ودوّن الدكتور نبيل شعت مُلخصاً لما جرى في واشنطن بعد توقيع الاتفاقية الانتقالية، والكلام الذي أبلغه رابين إلى «أبو عمار»، وذلك قبل مقتل رابين.
بعد واشنطن عاد رابين إلى «إسرائيل»، ومنها مباشرة إلى عمان (الأردن) لحضور اجتماع «دافوس» في عمان وتم هناك توقيع اتفاقيات عديدة من بينها اتفاق بالحروف الأولى على توريد الغاز القطري لـ «إسرائيل» قيمته 7 مليار دولار.
وبتاريخ 4 تشرين الثاني 1995، قُتل رابين في تل أبيب على يدي متطرف إسرائيلي يدعى إيغال عمير وهو ما شكّل انتكاسة لعملية السلام، وواجه عرفات تحدياً ضخماً تمثل في السعي للحفاظ على التزام الفلسطينيين والإسرائيليين بما أُطلق عليه «سلام الشجعان».
قرار التصفية الإسرائيلية بموافقة أميركية
في شهر تموز من العام 2000، التقى الرئيس عرفات رئيس الوزراء الإسرائيلي - آنذاك - إيهود باراك في «كامب ديفيد»، تحت إشراف الرئيس الأميركي - آنذاك - بيل كلينتون. في ذلك اللقاء، كان لدى الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي طموحٌ يرتقي في سقفه إلى توقيع اتفاقية حل نهائي، ينهي النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. لكن الرئيس الفلسطيني خيّب ظن الأميركيين والإسرائيليين، ورفض التوقيع على الحل المطروح، الذي اعتبره منقوصاً، ولا يلبي من وجهة نظره السقف الذي يطمح له الفلسطينيون، وهو أراضي عام 1967 بما فيها القدس الشرقية. أما «إسرائيل» فقـد اعتـبرت أنها قدّمـت فـي هذه المباحثات، أقصى ما يُمكنها تقديمه، وألقت باللائمة على عرفات، ووافقتها الإدارة الأميركية على ذلك.
من هنا بدأت حالة من الشدِّ والجذب، والعداء بين «إسرائيل» وعرفات، على الرغم من المحاولات اللاحقة في «لقاء طابا» للتوصل إلى اتفاق. وقـد توافق ذلك، مع اندلاع «الانتفاضة الثانية» - «انتفاضة الأقصى» بتاريـخ 28 أيلول 2000، بعد تدنيس وزير الدفاع الإسرائيلي - آنذاك - آرييل شارون المسجد الأقصى، التي كانت قد بدأت بالفعل قبل «لقاء طابا»، وقد اتهمت «إسرائيل» الرئيس الفلسطيني، بالتحريض على أعمال العنف من طرف خفي أو بشكل موارب، وأحياناً في العلن، لا سيما شعاره الذي كان يرفعه للمطالبة بالقدس الشرقية «عَ القدس رايحين شهداء بالملايين».
منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي «أبو عمار» من حضور قُداس الميلاد في بيت لحم ليل 24-25 كانون الأول 2001، فجرى وضع كوفيته على كُرسيه في الكنيسة، وحينها قال البطريرك ميشال الصباح ناظراً إلى الكوفية: «أنت حاضر «أبو عمار» أكثر من أي وقتٍ مضى». بعدها منعت سلطات الاحتلال الرئيس الفلسطيني من مغادرة رام الله، ثم فرضت عليه حصاراً بتـاريـخ 29 آذار من العام نفسه. داخل مقره في المقـاطعة مـع 480 من معاونيه ومرافقيه ورجال الشرطة الفلسطينية.
بتاريـخ 12 تشرين الأول 2004 ظهرت أولى علامات التدهور الشديد لصحة «أبو عمار»، فقد أصيب كما أعلن أطباؤه - بمرض في الجهاز الهضمي، وقبل ذلك بكثير، عانى من أمراض مختلفة، منها نزيف في الجمجمة ناجم عن حادثة طائرة، ومرض جلدي (فتيل يغو)، والتهاب في المعدة أصيب به منذ تشرين الأول 2003، وفي السنة الأخيرة من حياته تم تشخيص جرح في المعدة وحصى في كيس المرارة، وعانى ضعفاً عاماً وتقلباً في المزاج، نتج عنه تدهور نفسي وضعف جسماني.
تدهورت الحالة الصحية للرئيس الفلسطيني تدهوراً سريعاً في نهاية تشرين الأول 2004، قامت على إثره طائرة مروحية بنقله إلى الأردن، ومن ثم أقلته طائرة فرنسية إلى «مستشفى بيرسي العسكري» في فرنسا، وظهر الرئيس عرفات على شاشة التلفاز مصحوباً بطاقم طبي، وقد بدت عليه معالم الوهن مما ألمّ به. وفي تطوّر مفاجئ، أخذت وكالات الأنباء الغربية تتداول نبأ موت عرفات في فرنسا، وسط نفي لتلك الأنباء من قبل مسؤولين فلسطينيين.
وأعلن التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 4 تشرين الثاني 2004 نبأ «موت الرئيس عرفات سريرياً، وأن أجهزة عرفات الحيوية تعمل عن طريق الأجهزة الإلكترونية لا عن طريق الدماغ».
وبعد مرور عدة أيام من النفي والتأكيد للخبر من وسائل الإعلام، أعلن أمين عام الرئاسة الطيب عبد الرحيم بيان النعي الرسمي لوفاة الرئيس ياسر عرفات، بتاريخ 11 تشرين الثاني 2004.
ووُري جثمان الرئيس «أبو عمار» الثرى في مقر المقاطعة في مدينة رام الله، بعد أن تم تشييعه في ثلاث قارات لثلاث دول، هي: فرنسا – باريس (أوروبا)، مصر – القاهرة (إفريقيا) وفلسطين – رام الله (أسيا)، وذلك بعد الرفض الشديد من قبل الحكومة الإسرائيلية أن يُدفن جثمانه في مدينة القدس، كما كانت رغبته.
تضاربت الأقوال كثيراً في وفاة «أبو عمار»، حيث يَجزم غالبية الفلسطينيين والعرب أن وفاته كانت نتيجة لعملية اغتيال بـ «السُّم»، أو بإدخال مادة مجهولة إلى جسمه، ورجح أطباء ممن اطلعوا على فحوصاته الطبية، ومنهم الأطباء التونسيون وأطباء «مستشفى بيرسي» المتخصصون بأمراض الدم، أن يكون عرفات قد أصيب بمرض تفكك صفائح الدم.
لكن المسؤولين الفلسطينيين وأقارب الرئيس الراحل، الذين لم يُقنعهم جواب المستشفى بأن عينات الدم العائدة للرئيس قد تم تدميرها، مُعللين: «عادة بالنسبة لشخصية مهمة مثل عرفات عليهم الاحتفاظ بآثاره، ربما لا يريدون التورط في الأمر»، وهو ما عزز الشكوك لدى كثيرين ممن لا زالوا يُطالبون حتى اليوم بالكشف عن الوفاة الغامضة للرئيس الرمز.
ونتيجة لتلك الشكوك، اتخذت جهات مُتعددة إجراءات للكشف عن الأسباب الحقيقية للوفاة، كما أنً الرئيس «أبو مازن» قد طرح قضية استشهاد الرئيس عرفات، أمام مجلس «جامعة الدول العربية» في دورته (138)، التي عُقدت بتاريخ 5 أيلول 2012، حيث قدّم عرضاً، وهو ما أدى إلى اتخاذ الجامعة قراراً بالتحقيق في مُلابسات الاستشهاد، وقرر المجلس إنشاء لجنة للتحقيق في الأمر.
بتاريخ 27 تشرين الثاني 2012 أخذت عينات من رفات الرئيس عرفات على يد فريق من المتخصصين الروس والفرنسيين والسويسريين مع مراقبين ومشرفين فلسطينيين.
وأكد الخبراء الذين حللوا الأغراض الشخصية للرئيس الراحل والتي تحوي بقعاً من السوائل الجسدية العائدة له، أن يكون الرئيس «أبو عمار» تعرّض للتسمم بمادة شعاعية «بولونيوم 210»، حيث أن العوارض التي ظهرت عليه (غثيان، تقيؤ، إرهاق، إسهال، فقدان وعي وتوقف وظائف الكبد والكلى) كلها تؤكد هذا الافتراض.
ونفت السلطة الفلسطينية المعلومات الأخيرة المتداولة حول النتائج التي خلصت إليها التحقيقات، والمتداولة على لسان وكالة «شينخوا» الصينية والقائلة بأن «الرئيس الراحل «أبو عمار» لم يتم قتله بمادة بولونيوم»، مؤكدةً «أن نتائج التحاليل ستعلن رسمياً فور الحصول عليها».
سر مقتل طبيب الأسنان!
وثارت الشكوك حول عثور العلماء في «معهد لوزان» على نسب عالية من «البولونيوم» في أغراض عرفات، وكانت أعلى عشر مرات من الحالات الخاضعة للمراقبة، ففي فرشاة أسنانه وصلت مستويات «البولونيوم» 54 ميليبيكواريل (وهي الوحدة العلمية لقياس درجة الإشعاع), ووصلت في لباسه الداخلي الذي عليه بقعة بول 49 ميليبيكواريل (في اللباس الداخلي لرجل آخر استعمل في المراقبة، وصلت النسبة إلى 6.7 ميليبيكواريلات فقط). الأمر الذي أكد عليه مدير المعهد فرانسوا بوتشد بالقول: «أستطيع أن أؤكد لكم إننا قسنا كمية عالية من «البولونيوم» غير المدعوم 210 (المصنع) في أغراض عرفات التي تحمل بقعاً من السوائل البيولوجية. وهذه المستويات - التي تم تسجيلها في آذار 2012 - لا تمثل سوى جزء مما كانت عليه لحظة وفاة عرفات».
وهنا تطرح تساؤلات بشأن نسبة «البولونيوم» التي وجدت على فرشاة الأسنان الخاصة بالرئيس الراحل، والتي قد لا تكون بمنأى عن وفاة طبيب الأسنان الذي كان يُعاينه، والذي وجد جثة هامدة في عيادته وفي ظروف غامضة، وهو ما قد يصل إلى الاستنتاج أيضاً بأن «الموساد» الإسرائيلي وصل إلى عيادة الطبيب، وقام بتسميم المواد التي يستعملها بعلمٍ منه أو من دونه!
في جناح الرئيس
لدى زيارتنا مقر المقاطعة في رام الله في الضفة الغربية، أمر أمين عام الرئاسة الفلسطينية الطيب عبد الرحيم «أبو العبد»، الذي يُعتبر أحد المقرّبين من الرئيس الراحل، وكاتم الكثير من أسراره، وأحد الذين عايشوه في حصاره، أن يُفتح لنا الجناح الرئاسي للرئيس ياسر عرفات، فدخلنا إليه وجلنا فيه، وسجلنا هذه الانطباعات:
مكتبه صورة متكاملة عن فلسطين، فالكوفية الفلسطينية التي امتاز بها تتوّج كرسيه، وأمامه آخر رسالة حملت توقيعه مُوجهة من النائب المحامي فرج الطراف، كتبت بتاريخ 7 تشرين الأول 2004، بعدما تمازجت عليها ألون العلم الفلسطيني، فالرئيس وقّع بالأحمر، بعدما كانت أمانة السر قد أشارت عليها بالأخضر، والورقة بيضاء والطباعة باللون الأسود.
إلى يمين مكتبه صورة يحمل فيها ابنته زهوة، وخلفهما مُجسّم للمسجد الأقصى، وعلى الحائط المجاور يضع صورة للبطل فارس عودة في مواجهة دبابة «ميركافا» إسرائيلية، و«العهدة العمرية». وفي صدر الصالون مع المكتب صورة للقدس الشريف تجمع قبة الصخرة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وإلى جانبهما علما فلسطين والسلطة، وكرسيان استقبل على أحدهما أبرز زعماء العالم.
اصطحبنا «أبو العبد» إلى الطابق السفلي، إلى مكتب مدشم بأكياس رمل كان يستخدمه الرئيس عند اشتداد القصف.
وخلال جولتنا في الباحة الخارجية لمقر المقاطعة، استعاد «أبو العبد» لحظات مُؤثرة، فقال: «كنت في أوقات توقف فترة القصف الإسرائيلي - قبل احتلال المقاطعة - أجلس برفقة «أبو عمار» في الشمس بالقرب من قاعة الاحتفالات الكبرى، وحينما كنا نسمع صوت طائرات M.K تُحلق في الأجواء، يُبادر «أبو عمار»، بالقول: «أسرع إلى الداخل»، وذلك حتى لا تتمكن تلك الطائرات من نثر مواد سامة في الجو لأن الرئيس كان مُستهدفاً».
وتابع: «في اللحظات الأخيرة للرئيس «أبو عمار» وهو على فراش المرض وقبل نقله إلى باريس، اختار تسليم الأمانة إلى «أبو مازن» شريكه في تأسيس حركة «فتح» وانطلاقة «الثورة الفلسطينية»، فقال لي: «أبو مازن مش حبيبك لوحدك هو حبيبي كمان»... ومرد ذلك لأن «أبو العبد» كان صديقاً لكليهما.
وعلى مقربة من مكان الضريح، أشيد متحف الرئيس الشهيد ياسر عرفات «أبو عمار»، ليحتوي كافة تفاصيل حياته ولا سيما خلال فترة حصاره في السنوات الأربع الأخيرة في المقاطعة.
وكان الرئيس محمود عباس قد وضع الحجر الأساس للمتحف بتاريخ 10 كانون الأول 2008، وأزاح الستار عن اللوحة التذكارية بهذه المناسبة. وقال: «نضع الحجر الأساس لمتحف الرئيس الشهيد ياسر عرفات ليبقى في ذاكرة الأجيال، وليبقى إرثه، وكل ما ترك، في ذاكرة الشعب الفلسطيني الذي أحبه واحترمه، وياسر عرفات ضحى بحياته من أجل هذا الشعب، وسينقل جثمانه إن شاء الله قريباً إلى القدس عاصمة دولة فلسطين».
وشرح لنا «أبو العبد» المراحل، التي قطعها بناء المتحف الخاص بالرئيس «أبو عمار»، والذي تم وصله عبر جسر إلى الجناح الخاص بالرئيس الشهيد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها