قبل أقل من عام كان اليرموك يؤوي أكثر من ثلاثة ملايين نسمة، نصفهم من النازحين إليه من المناطق المجاورة. كان كتلة متلاصقة من البشر والمحال التجارية المليئة بالبضائع من شتى الأصناف. أما الآن فقد تغير كل شيء

كريم راشد

أنى اتجهت اليوم في مخيم اليرموك، وأي بيت زرت، ملأت أنفك رائحة العدس الذي اصبح بكل اشكاله، اساسا لتحضير الغذاء في المخيم المحاصر: مطحونا ليصير خبزاً ومعجنات وحلويات، أو حبوباً للطبخ. فالعدس هو الآن ملك موائد الجياع والمحاصرين في مخيم يطيب للبعض تسميته «المقاطعة»، وهو لقب يطلق على المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، وصار لها همومها وأمراؤها وطرائق عيش مختلفة تغيب عنها روح التضامن والمحبة.

ورواج العدس، الذي قفز سعره من خمسين إلى 750 ليرة سورية للكيلو غرام الواحد، لا تفسير له سوى غياب المواد التموينية الأخرى. وعلى ذمة البعض فإن رواجه لعبة من أمراء حرب احتكروا مواد غذائية بعينها، يخفونها ويظهرونها ويتحكمون بأسعارها. هكذا، اعتاد الناس أن يصنعوا من العدس المطحون خبزاً من خلال إضافة «البيكينغ بودر» عوض خميرة الخبز العادية المفقودة، وكذلك «الفانيليا» لإضفاء نكهة على خبز يشوب طعمه شيء من المرارة.

 وعلى طول الشوارع في اليرموك تنتشر بسطات «مناقيش الزعتر والمحمرة» بخبز العدس حيث يتجاوز سعر الفطيرة الواحدة ثلاثة دولارات. والزبائن الدائمون من أفراد الميليشيات، كونها وجبة سريعة وساخنة يتناولونها بين الوجبات التي تقدم لهم في تشكيلاتهم العسكرية، ونظراً لإقبال هؤلاء، لا يجد المدنيون سبيلا إلى شراء حاجتهم منها فيضطرون لصنعها في منازلهم. ويردد المدنيون ان «الجراد لم يترك لنا حتى مناقيش الزعتر». وقد ساهم انتشار باعة المناقيش في زيادة عدد الأشجار التي يتم قطعها يومياً لغاية جعلها حطباً لبضائعهم. وتضم البسطات أيضا العدس المطحون وقد صار حلوى بعد إضافة النشاء والمواد الملونة والعصائر الحلوة المركزة، وقد يخلطونه بالسمسم فيصير «حلاوة السمسم»، وبالحليب غير المركز والنشاء ليصير حلاوة السميد.

ولا يعجن خبز العدس ولكنه يستخدم كخليط رخو يجري سكبه على صفيحة ساخنة وتقليبه على الوجهين، لكنه سهل التكسر والتفتت ويفضل أكله بعد وقت قصير من خبزه لأنه يصبح قاسيا. ويصر بعض الناس على الحصول على هذا الخبز وكأنه يذكرهم برغيف الخبز العادي الذي غاب عن منازلهم منذ أكثر من مائة يوم. والمحزن أن رغيف خبز العدس هو ما يجعلهم قادرين على تناول «شوربة» العدس لمرات كثيرة في الأسبوع الواحد كوجبة صباحية أو مسائية عبر إضافته «للشوربة».

وفي ظل غياب البرغل والأرز والبصل يبدو الحديث عن الأكلة الشعبية «المجدرة» ضرباً من الخيال والجنون. فحبوب العدس تسلق ويضاف إليها العدس المجروش، فتصبح وجبة رائجة يحبها الأطفال.

 وكنوع من التضامن مع هؤلاء الأطفال وزعت بعض الجمعيات الأهلية مادة «الكورن فليكس» على الأطفال بعدما تمت مصادرة كميات كبيرة منه من بعض المجموعات المسلحة على يد مجموعات أخرى. وقد تفاخرت إحدى الجمعيات الأهلية بهذه الحركة ونشرت على صفحتها الخبر التالي «قامت جمعيتنا بصناعة وتوزيع كميات كبيرة من (الكورن فليكس) على أطفال المخيم في المدارس والأحياء ما أثار سرور الصغار».

«مقاطعة العدس» التي تغص شوارعها بشعارات الحرية، ومقابرها بآلاف الشهداء الذين سقطوا على مدار عمر الثورة الفلسطينية، ضاقت موائدها ليصبح العدس سيدها حتى فتح المعبر، أو أن يقتنع ثوار الأمس ممن صاروا أمراء وتجار حرب اليوم، بأنهم وعدوا الناس بالحرية لا بموت لا يمنعه عنهم إلا أكل المزيد من العدس.