لا أحدَ يَستطيعُ تَعريفَ الوَطنِ بشَكلٍ يُرضي كلَّ الذينَ يُحيّرُهُم هذا المُصطَلحُ الأسطوريُّ، فهو أكثرُ اتّساعاً من "مَسْقطِ الرأسِ" وأجمَلُ من أزقّةِ النشأةِ وتعلُّمِ القراءةِ ونَقْشِ الاسمِ على "حيطانِ الحارةِ"، وهو أشدُّ تعقيداً من شَبكةِ العلاقاتِ العائليةِ وجُمهورِ الأتْرابِ والأصدقاءِ ورفاقِ الطفولةِ وألعابِها العديدةِ. يَغمرُكَ بنُورِهِ وأنتَ في ظلالِهِ فيَكادُ أنْ يَحجبَ عنكَ القُدرةَ على تحسُّسِ ملامِحِهِ ويَحصرَ مدى إبصارِكَ في حُدودِ الحيِّ أو الحارةِ أو كَرْمِ اللّوزِ أو في بِضعةِ أغنامٍ تُكرّسُ لها وقتَكَ وتنامُ قريرَ العَينِ لأنّكَ تؤدّي واجبَكَ بأمانة الطّفلِ الذي لا يَعرفُ اسمَ جارتِهِ سوى أنّها أمُّ أو زوجةُ فلانٍ، ليسَ لأنّهُ يُريدُ أنْ يُجرّدَها من نَسَبِها، وإنّما لقناعتِهِ أنَّ كلَّ الذينَ يعرِفُهُم أغنياءُ عن التّعريفِ، لأنّهُم جُزءٌ منهُ، مثلُهُم مثلُ الجَبلِ الذي يراهُ أمامَهُ كلَّ يومٍ، ويستغربُ كيفَ يُغطّي الأفُقَ ويَحجبُ قُرْصَ الشّمسِ ويُجبِرُهُا على الرّحيلِ قبْلَ مَوعدِ رَحيلِها.
كيفَ يكبرُ الوطنُ إذنْ كلّما كبِرنا؟ ولماذا يزدادُ اتّساعاً كلّما ابتعدْنا عنهُ أكثر؟ أليسَ الأَوْلى بهِ أنْ يكشِفَ لنا عن اسمهِ الحقيقيِّ بَدَلَ أن يُخفيهِ "مُشَفَّراً" في رائحةِ "الميرميّة" أو في عِطرِ حبّةِ تينٍ أو بينَ أشعّةِ زَيتِ الزّيتونِ المُضيءِ دونَ أن تَمْسَسهُ نارٌ؟
-في الغُربَةِ يتجلّى لكَ الوَطنُ بكلِّ ما فيهِ من جَمالٍ، يَمتدُّ فيملأُ فضاءَ الكَونِ، ورغمَ أنّهُ لا يتّسِعُ لكَ، إلّا أنّكَ لا تلومُهُ، وإنّما تظلُّ تبحثُ لهُ عنْ مُبرّرٍ جعلَهُ مُجبراً على أنْ يضيقَ بكَ.
-في الغُربةِ تتخلّى عن دَورِ الشّريكِ في حياةِ النّاسِ الذينَ غادروكَ ورحلوا عنكَ ليظلّوا في الوَطَنِ وذاكرتِكَ، ثُمّ تُسْكِنُ وُجُوهاً جديدةً في الأماكنِ التي كانوا فيها، فتختلِطُ عليكَ الملامحُ والتّفاصيلُ والأسماءُ.
-في الغُربةِ تتغيّرُ مهمّةُ الحواسِّ وتكتَشفُ دَورَ القُدْرةِ على التخَيُّلِ ورَسْمِ الأشياءِ كما تحبُّ أنْ تراها، فأنتَ لا تستطيعُ أن ترى الوطنَ واضحاً إلّا عندَما تُغمِضُ عيْنَيْكَ، ولا تَجدُ وَجْهَ أمِّكَ في غابةِ الوجوهِ إلّا عندما تُبحِرُ في رحلَةِ الحُلمِ، فيصبِحُ النومُ موعدَكَ للقاءِ أمِّكَ.
-في الغُربةِ يكبرُ الصّغارُ ويشيخُ الكبارُ، لكنَّكَ تُصِرُّ أنْ تُبقيهم كما تركتَهُم، تَقي رؤوسَهُم من الشّيبِ وملامِحَهُم من التّجاعيدِ، فقدْ قرّرْتَ أنْ يتوقّفَ الزّمنُ عندَ عَتبةِ الدّارِ لمّا غادَرْتَها.
-في الغُربةِ لا تُشارِكُ في جنازةِ أمّكَ أو أبيكَ، فلا تدري من هو المَيْتُ، هُما أمْ أنْتَ!
-في الغُربَةِ تبقى أنتَ طفلاً ويكبرُ أطفالُكَ، تحاولُ أنْ ترسِمَ لهم طريقَ مدرَسَتِكَ وشَجرَ التّينِ والزّيتونِ، تبدأُ بِعَدِّ أسماءِ "الأهلِ" على مسامعِهِم، لكنْ أنّى لكَ أنْ تعلِّمَهُم أسماءَ مئةٍ من أفرادِ العائلةِ هُم ذرّيّةُ أمّكَ وأبيكَ وحدَهُما!
-في الغُربةِ يُحاصِرُكَ المنفى الجميلُ بكلِّ ما فيهِ من قُبْحٍ وبشاعةٍ! أليسَ هذا هو الغولُ الذي حدّثكَ عنهُ أبوكَ ألفَ مرّةٍ وهو يحاولُ أن يتحايَلَ على بَرْدِ "المربعانيّةِ" ويدفّئَكَ بقصّةٍ أخرى تختلفُ تفاصيلُها عن كلِّ سابقاتِها، ولا يتكرّرُ فيها شيءٌ سوى الغُولِ، فهو الوحيدُ الذي يَسكُنُ كلَّ الحكاياتِ، وها أنتَ تَسكُنهُ وتُسمّيهِ "منفى" أو "لا وطَنَ". وفي المنفى-الغولِ ليسَ هناكَ بيادِرُ قَمحٍ ولا أبٌ يوقظُكُ والليلُ نائمٌ لتَصحُو وتذهبَ مَعهُ في رحلةِ الحجِّ اليوميِّ إلى الأرضِ. هنا لا درْبَ يعرفُكَ ولا صدى يريدُ أنْ يتعرّفَ على نبراتِ صوتِكَ.
-في الغُربَةِ تَجبِلُ منْ غُبارِ الذّاكرةِ ودموعِ الحنينِ إلى الوطَنِ طيناً وتصنعُ منهُ تمثالاً لذاتِكَ، تَنظرُ إليهِ فتجدُ أنّهُ لا يختلفُ عنْكَ إلّا بابتسامتِهِ التي سرقَها الغولُ مِنْ ملامحِ وجْهِكَ، فتَصْرخُ:
*ما أصْغَرَ الكَوْنَ!*
*ما أكْبَرَ الوَطَنَ!*
*ملاحظة:*
*وصلتُ إلى بولندا للدّراسةِ بتاريخ ٢٥-٩-١٩٧٩، أيْ قَبْلَ أربَعينَ عاماً، ولا زِلْتُ على يَقينٍ أنّني مُقيمٌ هُنا بشَكْلٍ مُؤقّت.
٢٥-٩-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها