تحقيق: تغريد العبد الله
خاص مجلة "القدس" العدد 341 أيلول 2017
ستُّ سنواتٍ من الحرب المستعرة في سوريا كانت كفيلةً بسرقة الطفولة من أطفال شعبنا اللاجئين في المخيّمات السورية. محطاتٌ صعبةٌ وقاسيةٌ عديدة تعرَّض لها هؤلاء الأطفال، ما بين أهوال الحرب التي خلَّفت مشاهد وتبعات نفسية لن تُمحى بسهولة من ذاكرتهم لقسوة ما شاهدوه من دمار وقتل وسيلان لدماء الأبرياء، ورحلة اللجوء والاستقرار في مخيّمات اللجوء في لبنان. وفي حين نجحت الحرب في سلبهم ذويهم، وأصدقاءهم، ومنازلهم، واستقرارهم، إلّا أنَّها لم تُفلِح في سرقة الأمل والطموح من كُثُرٍ، كالطفل الفلسطيني جواد منوّر، صاحب الأحلام التي لا حدَّ لها.
رحلةُ اللّجوء من سوريا إلى لبنان
جواد رامز منوّر، طفلٌ فلسطيني لا يتجاوز عمره الأحد عشرَ عامًا. هرب وأسرته من هول الحرب في سوريا إلى لبنان، وحطَّت به الرحال في مخيَّم الرشيدية، حيثُ التحقَ بمدرسة عين العسل الابتدائية التابعة لوكالة "الأونروا"، وهو في الصف الخامس الابتدائي، ويقيم حاليًّا مع عائلته المؤلَّفة من أبٍ وأُمٍّ وشقيقين يصغرانه سناً.
وحول رحلة تهجيره من سوريا إلى لبنان يروي جواد: "كُنا نُقيم في مخيّم الحسينية في سوريا، وكانت حياتنا أكثر من رائعة، ملأى بضحكات لا يمكن لأحد أن يخطفها. لكن الأمان لم يدم طويلاً، إذ كانت الحرب تتربّص بنا. وفي أحد الأيام سمعنا صوت الرصاص والقذائف في المخيَّم، ولم نكن نعلم ماذا يجري. للوهلة الأولى لم نهتم كثيراً بما كان يحصل خارج المنزل، ولكن عندما أصبحت الأصوات تزداد في كل دقيقة، وأخذت أصوات الجيران وصراخ النساء والأطفال والهتافات تتعالى، حينها علمنا أنَّ الحرب قد اشتعلت في سوريا. وشيئًا فشيئًا أخذ الخطر يزداد حول مخيّمنا، ولم نكن نعلم الجهة التي تستهدف المخيّم بالصواريخ والرصاص والقذائف، كلُّ ما كنا نراه هو الأبنية التي يتصاعد منها الدخان الأسود الذي أخذ يعمُّ المخيَّم وسماءه، إضافةً إلى انتشار المسحلَّين في كلِّ مكان، وهو ما كان مرعبًا جداً. لقد تسلَّل الخوف والشعور بالألم وعدم الأمان إلى قلبي بعد ما رأيته من مشاهد الجثث والأشلاء المتراكمة فوق بعضها البعض في الشوارع، والمنازل والأبنية التي استحالت ركامًا".
ويُضيف: "أخذنا ننتقل من مكان إلى آخر، وكنا نختبئ في بعض الأماكن لساعات طويلة، وبعدها نزحنا إلى مدينة ركن الدين في سوريا، حيثُ مكثنا نحو شهر في منزل جدي، ولكن الخوف بقي مسيطرًا علينا، لأنَّ الجيش الحر كان يحاصر المنطقة، فقرَّرت عائلتي التوجُّه إلى بيروت. وبالفعل، وصلنا إلى بيروت، وأقمنا عدة أيام عند أقارب لنا، ولكن لسوء الوضع المادي، قرَّر والدي أن نستقر في مخيّم الرشيدية، بحثًا عن الأمن والاستقرار ولنكون بين أهلنا، فأقمنا نحو شهر ونصف في منزل جدي، ثُمَّ بدأ والدي يبحث عن منزل للإيجار، وعن عمل يُمكِّنه من كسب لقمة العيش من دون أن يضطَّر لمدِّ يده لأحد، وبحكم صعوبة الظروف عمومًا، ولكونه ليس من أهل المخيم، كان الاستقرار في عملِ يوفِّر لنا الحياة الكريمة أمرًا صعبًا، فعَمِلَ في محلٍ لبيع الفاكهة والخضار، ثُمَّ في مجال الطلاء، وأخذ يتنقَّل من عملٍ إلى آخر، حتى استقرَّ به المطاف بالعمل في مجال البناء. صحيحٌ أنَّه عملٌ شاقٌّ جداً، ولكنَّه على الأقل يُكسبه لقمة عيشنا بكرامة".
رغم العذاب والألم جواد مفعمٌ بالأمل
برغم تأثُّر جواد الشديد بأحداث الحرب التي عايشها، ومعاناة التنقُّل، وهموم العيش في مخيّمات اللجوء في لبنان، إلَّا أنَّ هذه الظروف الصعبة، كانت حافزًا له لتحقيق النجاح والتمسُّك بالأمل، حيثُ يقول: "أثَّرت الحرب فينا كثيراً، ولكنَّنا تجاوزنا الأزمة -بفضل الله تعالى- بعد مدة، وشعرتُ أنَّ لا شيء سيقف في وجه أحلامي. بدأتُ مسيرتي التعليمية هنا في مدارس تابعة لوكالة "الأونروا"، وها أنا اليوم قد حصلت على المرتبة الأولى في الصف الخامس في مدرسة عين العسل، وأشعرُ بالفخر كثيرًا بما تمكَّنتُ من تحقيقه، إضافةً إلى أنَّني أتعلَّم الدبكة والتراث الفلسطيني في "مركز القدس للشباب"، وقد كانت هذه تجربةً غنيّةً ورائعة، لأنّني كنت غافلاً عن جمال تراث وطني فلسطين. ولكن حلمي الأكبر، والذي بدأت خطوات البداية على طريقه الطويل، هو أن أصبح لاعبَ كرة قدم تتحدَّث عنه فلسطين وسوريا والعالم أجمع".
وعن شغفه بكرة القدم يقول: "كرة القدم، والرياضة عمومًا، لها مكانة خاصّةٌ في قلبي، لا سيما أنَّها يمكن أن تساهم في توحيد الشعوب، وترسيخ مبادئ وقِيَم وأخلاق. لقد بدأتُ بممارسة رياضة وتدريبات كرة القدم في "مركز القدس للشباب"، حيثُ كانت المدرِّبة تغريد العبدالله تقوم بتدريبي ومساعدتي أنا وأصدقائي لنتمتَّع باللياقة البدنية المطلوبة، ونتعلَّم مبادئ وقواعد كرة القدم، والكثير من التمارين التي تُخوِّلنا أن نستمر ونكافح لنصبح ما نريد، وذلك على مدى عدّة أيام أسبوعيًّا، إضافةً إلى إشراكنا في مواجهات مع فرق رياضية أخرى في ملاعب متعدّدة بهدف التعرُّف على الأندية وأصدقاء جُدد، وللتسلية. وكلَّما سنحت لي الفرصة لأشارك في الدورات والتدريبات سأشارك، ولكنَّني لن أنسى فضل مدرِّبتي تغريد علي، ووقوفها بجانبي وبجانب أصدقائي، وأنّها مَن وضعتني على بداية رحلتي لتحقيق حلمي. كما لن أنسى هدفي الأول الذي سجَّلته عن بعد خمسة عشر مترًا في مرمى "مركز القدس للشباب" بصناعة من صديقي علي الحاج موسى، ويومها شعرتُ بفخر كبير، وبأنَّني أستطيع أن أُكمل طريقي لأصبح لاعبًا مميَّزًا".
ويتابع: "فريقي المفضل هو نادي "ريال مدريد"، واحفظ أسماء جميع لاعبيه ومعلومات عنهم، وقدوتي في رياضة كرة القدم هم اللاعبون (كريستيانو رونالدو)، و(سيرجيو راموس)، و(مارسيلو دا سيلفا)".
ويختمُ جواد حديثه لـ"القدس" قائلاً: "لا الحرب ولا غيرها تستطيع أن تنتزع مني أحلامي وآمالي بأن أصبح لاعبًا مميَّزاً يتحدَّث عنه كل العالم، أو أن توقف مسيرتي التعليمية والثقافية، أو أي طموح آخر أسعى لتحقيقه، وأقولُ لكلِّ طفلٍ من أطفال سوريا وفلسطين والعراق والعالم أجمع، لا تسمحوا للحرب بأن تخطف منكم أحلامكم.. أكملوا طريقكم، وتوخوا النجاح والاجتهاد، حتى وإن كان الأمر صعبًا ولكنَّكم ستفعلونها".
إذًا، فلا صوت يعلو فوق صوت أحلام الأطفال، ولن تستطيع الحرب إخماد آمالهم أو الحدَّ من طموحاتهم. جواد واحدٌ من مليون طفل أثَّرت الحرب عليهم، إلّا أنَّه بعزيمته وإصراره أشرق من عتمة المعاناة من جديد. ويبقى الأمل أن يتم الأخذ بيد جواد وغيره من الأطفال، للوقوف إلى جانبهم، وإسنادهم نفسيًّا ومعنويًّا، والحرص على وضعهم على الطريق الصحيح لتحقيق أمانيهم وطموحاتهم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها