خاص مجلة "القدس" العدد 341 ايلول 2017
تحقيق: وسام خليفة
تحدِّياتٌ عدّة تُواجهها مدينة الخليل التي كانت وما زالت هدفًا ومطمَعًا للاحتلال ومستوطنيه، وآخرها قرار السلطات الإسرائيلية تشكيل مجلس إدارة لشؤون المستوطنين. وقد أثارَ هذا القرار استنكارًا ومعارضةً فلسطينية شديدةً، على المستويَين الشعبي والرسمي، نظرًا للتداعيات الـمُحتمَل نجومها عنه على المناحي الحياتية للفلسطينيين كافّةً.
القرار يهدف لتعزيز الوجود الاستيطاني
حذَّر العديد من السياسيين الفلسطينيين من خطورة القرار الإسرائيلي بتشكيل مجلس إدارة لشؤون المستوطنين، لكونه سيُمَكِّن المستوطنين من السيطرة على البلدة القديمة في مدينة الخليل، والتي لها وضعٌ خاص، إذ تنقسم لجزأين، أحدهما يخضع للسيطرة الأمنية الفلسطينية (H1)، فيما يخضع الآخر للسيطرة الأمنية الإسرائيلية (H2). وبدوره يُنوِّه أمين سر حركة "فتح" في البلدة القديمة في الخليل مهنّد الجعبري لما لهذا القرار من انعكاساتٍ خطيرة، موضحًا لـ"القدس": "نحن ننظرُ إلى هذا القرار بحذرٍ عالٍ جدًا كونه القرار الأخطر الذي اتَّخذه الاحتلال الإسرائيلي بحقِّ الخليل منذ العام 1967، فهو يُشرعِن الاستيطان في البلدة القديمة عبر منح المستوطنين إدارة شؤونهم بشكل ذاتي من خلال مجلس لإدارة المستوطنات، لأنَّ منطقة (H2)، والتي نتجت بعد اتفاق وقَّعته السلطة الفلسطينية بعد دخولها الوطن مع "إسرائيل"، يُصنِّف منطقة (H2)كمنطقة فيها نفوذ إسرائيلي أمني، ولكن من دون سيطرة إسرائيلية على قطاع الخدمات. بيدَ أنَّ وجود مجلسٍ لإدارة شؤون المستوطنين، يعني أنَّ لهُم جسمًا تنفيذيًّا كالبلدية سيُلَبّي مطامعهم الاستعمارية في البلدة القديمة، ويُعطي لهم الصلاحيّة في العديد من الأمور مثل فتح الطرق كما يشاؤون، ومصادرة الأراضي والمساكن المملوكة للفلسطينيين غير المأهولة، وذلك نظرًا لظروف البلدة وخطورة الوضع كونها على مقربة من مساكن المستوطنين، وقد تكون هذه الخطوة الأولى في مخطَّط تهجير جديد لأهالي البلدة القديمة في مدينة الخليل، وأيضًا لربط مستوطنة (كريات 4) بمنطقة تل رميدة من خلال شارع رئيس، ووصل البلدة القديمة ومناطق وجود المستوطنين مع باقي المستوطنات الموجودة في المنطقة، ممَّا سيُعزِّز الوجود الاستيطاني ويقويه، وقد يُساعد بانتشاره بشكل أكبر".
الاحتلال يُهيمن على جميع مناحي الحياة في البلدة القديمة
يلفت مهنّد الجعبري إلى شروع الاحتلال منذ نحو شهر تقريبًا بتركيب بوابات إلكترونية جديدة بنظام بصمة الإصبع وبصمة العين، حيثُ باتت موجودةً حاليًّا في شارع الشهداء، وتل رميدة، على أن يتم استكمال العملية في باقي أحياء البلدة القديمة ومحيطها على مراحل. وحول تبعات هذا الإجراء يقول: "هذا يعني أنَّ أي مواطن لن يستطيع الدخول إلى منزله إلّا ببصمة عينه وإصبعه، وبالتالي هو نظام أبرتهايد جديد تُمارِسُه دولة الاحتلال على سكان البلدة القديمة في القدس. وللعِلم، منذ عامين، وبالتحديد منذ هبَّة القدس الأخيرة، يخضع أهالي البلدة القديمة في الخليل لحصار عسكري، إذ لا يستطيع أحدٌ دخول بعض الأحياء إلَّا إذا كان من السكان، أمَّا الزوّار أو مَن لهم حاجات في البلدة القديمة، فغير مسموح لهم الدخول، وبالتحديد منطقة شارع الشهداء وتل رميدة. وقد بدأ الاحتلال بتوسيع هذه الرقعة إلى باقي أنحاء البلدة القديمة، ومحيط الحرم الإبراهيمي الشريف، ومحيط ما يُسمَّى مستوطنة (كريات 4) بهدف فرض واقعٍ أمنيِّ جديدٍ على السكان يحدُّ من تنقُّلهم، ويُضيِّق عليهم، لإجبارهم على الرحيل، ولكن أهالي البلدة القديمة رغم جميع إجراءات الاحتلال مُصمِّمون على الصمود والبقاء في بيوتهم وأحيائهم، وهُم متمسِّكون بأرضهم، ولن يتخلوا عن أملاكهم".
هذا ويتعرَّض المواطنون في البلدة القديمة في الخليل لأشكال عديدة من المضايقات من قِبَل قوات الاحتلال الإسرائيلي المنتشرة في أنحاء البلدة القديمة، يُفصِّلها مهنّد الجعبري قائلاً: "من أشكال المضايقات التي ينتهجها الاحتلال، التفتيش اليومي على البوابات الموضوعة عند مداخل الحارات، والذي يطال حتى طلاب المدارس، إذ يعمد جنود الاحتلال لمضايقتهم في طريقهم إلى ومن المدارس، في انتهاكٍ صارخ لحقوق الطفل، إضافةً إلى طلاب الجامعات الذين تتعمَّد قوات الاحتلال التنكيل بهم ومنعهم من الوصول إلى جامعاتهم في أوقات امتحاناتهم، ممَّا يؤدِّي لتعطيل المسيرة الدراسية للعديد منهم، وهناك حالات موثَّقة لدينا بهذا الشأن. والأمر نفسه على الصعيد الصحي، إذ يُجبَر أهل المريض على التنسيق مع إدارة الجيش الموجودة في البلدة القديمة للسماح لسيارة الإسعاف أن تُقلَّ المريض إلى المستشفى، وتخضع جميع مناحي الحياة في البلدة القديمة لإجراءات وتضييقات عسكرية إسرائيلية، بمعنى آخر.. لا توجد هناك حياة".
ومنذ العام 1994، وبالتزامن مع مذبحة الحرم الإبراهيمي، بدأ الوضع الاقتصادي يتراجع في البلدة القديمة في الخليل. ومع بدءِ الانتفاضة الثانية العام 2000، أصدرت قوات الاحتلال قرارًا بإغلاق 550 محلّاً تجاريَّا. واليوم يوجد أكثر من 120 محلّاً تجاريًّا يعجز عن فتح أبوابه بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، فيما يعاني نحو 200 محلٍّ تجاري من ضعف الحركة الاقتصادية، نتيجة الوجود الاستيطاني في البلدة القديمة، ومضايقات جيش الاحتلال للمواطنين، وعدم وجود استراتيجيّة اقتصاديّة فلسطينية قادرة على إعادة تحريك عجلة الاقتصاد في البلدة، وَفْقَ الجعبري، الذي يلفت إلى أنَّ قيام السلطة الفلسطينية بإعفاء التُّجار من الضرائب، وإجراء تسهيلات اقتصادية لدعم التُّجار في البلدة القديمة، وجميع الخُطَط التي وُضِعَت لإعادة تحريك عجلة الاقتصاد في البلدة القديمة من قِبَل السلطة الفلسطينية أو الغرفة التجارية والمحلِّلين الاقتصاديين لم تنجح حتى اليوم في تحسين الوضع الاقتصادي في البلدة القديمة، لعدم تنفيذ معظم الخطط على أرض الواقع بالصورة المطلوبة.
ويُضيف: "المطلوب من أهالي البلدة القديمة الصمود في بيوتهم، وعلى أهالي الخليل التوافد إلى البلدة، ودعم صمود التُّجار فيها، كما علينا تفعيل المقاومة الشعبية السلمية من أجل الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في البلدة القديمة".
الاحتلال يُعيق البلدية عن أداء مهامها في البلدة القديمة
لم تشمل اتفاقية "أوسلو" حين توقيعها مدينة الخليل، ولكن بعد عامين على توقيع الاتفاقية، وُقِّع "بروتوكول الخليل" برعاية أمريكية، وبموجبه قُسِّمَت الخليل للجزأين (H1) و(H2).
ويشرح نائب رئيس بلدية الخليل المهندس يوسف الجعبري لمجلّة "القدس" أنَّ اتفاق "بروتوكول الخليل"، الذي كان من المقرّر أن يستمر لمدة لا تتجاوز 4 سنوات، لا يزال مستمرًا حتى يومنا هذا، مُضيفًا: "هذا البرتوكول يمثِّل اتفاقًا جائرًا بحق مدينة الخليل، وقد أثَّر على الوضع في البلدة القديمة، مُقسِّمًا إياها لجزأين من الناحية الأمنية، ولكنَّ المدينة بكاملها تتبع لبلدية الخليل التي وللأخيرة كامل الصلاحيات فيها، حيثُ تُقدِّم البلدية خدماتها في أنحاء المدينة كافّةً رغم المعيقات والتضييقات الإسرائيلية الممارَسة على الطواقم والاعتداءات عليهم. أي أنَّ التقسيم أمني، ولكن كلا القسمين، (H1) و(H2)، يتبعان خِدماتيًّا لبلدية الخليل".
وحول واقع عمل البلدية في البلدة القديمة يقول: "يوجد في البلدة القديمة نحو 300 مستوطن يحرسهم أكثر من 2000 جندي إسرائيلي، وهناك اكثر من 100 حاجز وبوابة إلكترونية عند مداخل البلدة القديمة، يمارس الاحتلال عبرها التضييق على حركة تنقُّل السكان، إضافةً إلى إجراءاته وأوامره العسكرية التي أدَّت لإغلاق مئات المحلّات أبوابها في البلدة القديمة. وبدورنا كبلدية، تعترضنا عقباتٌ كثيرةً تمنعنا من أداء مهامنا. فعلى صعيد البنية التحتية، نواجه العديد من الصعوبات للتنسيق للعمل في هذه المناطق، ورغم حصولنا على التنسيقات المناسبة المتَّفَق عليها، إلا أن طواقمنا ومعدّاتنا يتم الاعتداء عليهم من قِبَل قوات الاحتلال أو المستوطنين، وبمعنى آخر فإنَّ مَن يحكم ليس الاحتلال، وإنَّما مجموعة من المستوطنين المتطرّفين".
وبسؤاله عن التأثير المتوقَّع لمجلس إدارة شؤون المستوطنين على الوضع في البلدة القديمة، يقول: "هذا القرار خطيرٌ جدًا، فالبلدة القديمة خاضعة لصلاحيات بلدية الخليل، وهذا مُحدَّد بوضوح ضمن الاتفاق السياسي الذي مضى عليه أكثر من عشرين عامًا. وللأسف، طوال هذه الأعوام، لم يلزم كيان الاحتلال بأيٍّ من الشروط الموقَّعة، إذ كان يُفترَض بإسرائيل إجلاء المستوطنين من البلدة القديمة في الخليل، وجميع المواثيق الدولية شدَّدت على أنَّ الوجود الاستيطاني في الخليل غير شرعي. وبالتالي، فإنَّ تشكيل المجلس أو أي شيء تقوم به دولة الاحتلال لتعزيز وضع المستوطنين هو غير شرعي، لأنَّ الصلاحيات هي لبلدية الخليل، سواء أكان في مناطق نفوذ السلطة الفلسطينية أو في مناطق نفوذ الاحتلال".
ويردف: "نحن نرفضُ وجود هذا المجلس، ولن نسمح بوجود بلدية داخل بلدية، لأنَّ ذلك سيُعطي المستوطنين صلاحيات السيطرة على المنازل، والهدم، وشقّ الطرق، ممَّا سيؤثِّر على عملنا كبلدية مسؤولة عن الخليل بشكل كامل. وبالمناسبة كلُّ المواثيق الدولية التي تتحدَّث عن معايير إيجاد جسم بلدي لأيِّ منطقة تفرض شروطًا معيّنة يجب أن تنطبق على المنطقة المحدَّدة، وفي حالة المستوطنين لا يوجد أيُّ شرط ينطبق عليهم لإيجاد بلدية لهم، لذا هذه المنطقة لن تكون إلَّا تحت مسؤولية بلدية الخليل، فصلاحيات المجلس الإداري للمستوطنين يُراد لها أن تشمل إنشاء بنى تحتية تخدمهم والمسؤولية عن خدمات الماء، وهي صلاحيات لبلدية الخليل، لذا نرفضُ هذا الإجراء قطعًا، وقد تواصلنا مع الحكومة الفلسطينية بشكل سريع لتدارُس الموقف، وتمَّ التجهيز لمراسلة جميع أصدقائنا من البلديات التي أجرينا توأمةً معها،كما تمَّت مخاطبة العديد من الدول والمنظّمات التي تهتمُّ بهذا النوع من القضايا في مختلَف أنحاء العالم، علاوةً على التواصل مع الأمريكيين، بما أنَّ البروتوكول كان قد أُبرِم برعاية أمريكية، للضغط على الاحتلال ودفعه للتراجع عن القرار".
انعكاسات القرار على الممتلكات الفلسطينية
يرى مدير عام لجنة إعمار الخليل عماد حمدان أنَّ قرار تشكيل مجلس إدارة لشؤون المستوطنين سيُمهِّد إلى اقتطاع جزءٍ كبيرٍ من مدينة الخليل، بحسب ما يسعى له الاحتلال، وخاصّةً بالنسبة للمنطقة (H2)، والتي تبلغ مساحتها نحو 20% من مساحة مدينة الخليل، بحيث يتم ضمُّ هذا الجزء إلى مناطق نفوذ العدو والمستوطنات المحيطة بالمنطقة.
ويتابع: "أخطرُ ما في الأمر هو عملية تقنين الموارد والاستيلاء على الممتلكات والمباني الفلسطينية التي ستتم في حال أُعطيَت السلطة والصلاحيات الكاملة للمستوطنين، بذريعة أي حجج سيختارونها وفق ما يشاؤون. وعندما يقع أكثر من 40,000 فلسطيني تحت السيطرة الإسرائيلية في منطقة معزولة يتحكَّم بها الاحتلال، فمن المؤكَّد أنَّها ستتأثَّر بشكل كبير، حيث ستعمد سلطات الاحتلال لممارسة كلِّ أنواع العنف تجاه الفلسطينيين في تلك المنطقة، وبمنحها مجلسًا للمستوطنين، فإنَّها ستتحكَّم بجميع جوانب حياة الناس في البلدة القديمة، وستعمل على تقوية النفوذ الاستيطاني على حساب السكان الفلسطينيين الذين يعانون بالأصل الأمرَّين جرّاء الممارسات الإسرائيلية حتى في الدخول إلى البيت والخروج منه. وبهذه الإجراءات أرغمت قوات الاحتلال العديد من المواطنين على هجرة بيوتهم أو محالهم التجارية، لتقوم بعدها بمنح العديد من هذه الممتلكات للمستوطنين تحت ذرائع عديدة".
ويختم حمدان حديثه لـ"القدس" قائلاً: "رغم مغادرة بعض الأهالي، لكنَّ الغالبية العُظمى من سكان البلدة القديمة ما زالت تعيش في بيوتها وتدافع عن وجودها، ونحن نثقُ بالسُّكان الفلسطينيين الذين يقارعون الاحتلال يوميًّا للبقاء في بيوتهم ومحالهم التجارية، وفي مرافق البلدة القديمة. وبهدف دعم السكان، تمَّ اتَّخاذ العديد من الخطوات على المستوى السياسي والدولي والدبلوماسي، وعلى مستوى المنظمات ومؤسسات المجتمع الدولي المختصّة مثل (اليونيسكو)".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها