اختبأ أحمد زايد مع عائلته، وأهالي قريته داخل "البِدّ"، وهو موقع أثري روماني قديم، بناء على أوامر الجيش الأردني، الذي كان يحكم الضفة الغربية في ذلك الوقت من العام 1967، الذي دعاهم للاحتماء بأماكن آمنة لحين انتهاء الحرب.

في البدء، كان الظن السائد لدى أهالي قرية بيت نوبا، شمال غرب القدس، أن أصوات النيران والمدافع في الخارج تعود للجيش العراقي، الذي حضر برفقة جيوش عربية أخرى، لغرض تحرير فلسطين من الاحتلال، فكانت قلوبهم تخفق فرحا مع كل طلقة تخرج من فوهة البنادق، والمدافع.

مكث الأهالي في "البِدّ" ست ساعات، امتدت من السادسة مساء، وحتى الثانية عشرة منتصف الليل، كانوا حينها يستقون معلوماتهم من مختار الحمولة، الذي بدوره كان يحصل عليها من نشرات الأخبار، والبيانات العسكرية الحماسية، التي تبثها إذاعة "صوت العرب".

تمام الثانية عشرة ليلة الخامس من حزيران، انسحب الجيش الأردني من بيت نوبا، ومن عمواس، ويالو المجاورتين، ليدخل بعدها الجيش الإسرائيلي إلى عمواس، الواقعة جنوب شرق مدينة الرملة المحتلة، والواصلة بين مدن رئيسية، هي: الرملة، ويافا، ورام الله، والقدس، وغزة، فكانت القرى الثلاث هي الأقرب إلى فوهة المدافع، والرشاشات.

تبدلت الحال، حينما أبلغ المختار أهالي بيت نوبا بسقوط عمواس، ويالو، ليكون شعور الانكسار بديلا عن الانتصار.

خاف سكان بيت نوبا، ومعهم عائلة زايد، ودب الرعب في قلوبهم، وأعاد المشهد إلى ذاكرتهم ما حدث من مجازر وتهجير خلال نكبة 1948، ودفعهم الخوف لترك أمتعتهم وبيوتهم، وفي السابعة صباحا بدأوا بالهروب نحو قرية بيت لقيا القريبة.

بدأت مدافع وطيران الجيش الإسرائيلي بدك القرى الثلاث، وإطلاق النار على الناس، وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وإرسال تهديدات عبر مكبرات الصوت، بأنه سيتم إطلاق النار على كل من يقترب من المناطق العسكرية، أو من يتحرك ويتجول في الشارع.

هذه الأحداث ما زالت تضج بها ذاكرة أحمد زايد، الذي لم يكن يتجاوز حينها الثالثة عشرة، وهو الذي يذكر أيضا كيف أعدم الجيش الإسرائيلي جاره موسى أبو هنية، ورماه تحت شجرة مزروعة بجانب المركز الصحي لبيت نوبا، وكيف هدم بيت محمود بكر فوق رأسه، وكيف قتل جاره لطفي زيدو وألقاه عند عين ماء القرية.

سار أحمد وعائلته وأهالي قريته قاطعين طرقا زراعية صعبة، نحو بيت لقيا، قبل أن ينتهي بهم المطاف في بلدة بيتونيا.

"تركنا بيوتنا، وأمتعتنا، وثلاثة أبقار، و12 رأسا من الغنم، وخيراتنا، وأراضينا، وهربنا من الموت" قال زايد.

بعد أيام من انتهاء حرب 1967، أو حرب الـ "الأيام الستة"، والتي خلفت آلاف الشهداء العرب، مقابل مئات القتلى الإسرائيليين؛ وإلحاق خسائر فادحة في العتاد الحربي في الدول العربية، وفقدان ما تبقى من فلسطين إضافة إلى الجولان السوري، وشبه جزيرة سيناء، حاولت عائلة زايد العودة إلى بيت نوبا، لكن كان الجيش الإسرائيلي قد وضع حاجزا عند مدخلها ويطلق النار على كل من يقترب من هناك.

"محاولاتنا للوصول إلى مشارف البلد تكللت بالفشل، في إحدى المرات، بدأوا بإطلاق النار تجاهنا، حين وصلنا إلى منطقة قريبة، وفي 17 حزيران قاموا بتفجير ما تبقى من منازل القرية، ومسحها من الوجود، وأزالوا شواهدها، ومعالمها القديمة، صارت بيت نوبا أثرا بعد عين، وأقاموا على أنقاضها مستوطنة (ميفو حورون)"، قال أحمد.

وفي حادثة أخرى، ذهب أحمد وأمه في موسم قطف الزيتون، مستغلين عدم وجود الجيش الإسرائيلي في المنطقة، تسللا إلى المنطقة القريبة من بيت نوبا، وقطفا الزيتون وأثناء عودتهما اصطدما بعربة عسكرية اسرائيلية، أخذ الجنود منهم الزيتون، وأحرقوه، قال أحمد "هددونا بالقتل في حال عدنا مرة أخرى".

قبل "نكسة" حزيران بعامين، كانت هناك محاولات عديدة لاحتلال القرى الثلاث، إحداها كانت عندما أحضروا جرارات زراعية لحراثة الأراضي المتاخمة لها، وبقوا يحرثونها حتى ساعات الغروب، بعدها نزل الجيش الإسرائيلي إلى أن وصل على مشارف عمواس، لكن هذه المحاولة فشلت بعد تصدي الأهالي.

يتذكر أحمد زايد، الذي صار اليوم في الثالثة والستين ويرأس حاليا جمعية بيت نوبا، الكثير من تفاصيل الحياة في قريته التي هجر منها، ويتذكر آخر إفطار تناوله في بيته، حيث أعدت له أمه قطعة من الجبن، وكأس حليب، وبيضه مقلية.