خاص مجلة "القدس" العدد 337 ايار 2017
تقرير: غادة اسعد
ممرٌ ضيّقٌ يأخذنا إلى سراديب الحكايا، ذكرياتٌ تعيدنا إلى الماضي، يومَ كان "سوق الناصرة" يعجُّ بالزائرين من كل حدبٍ وصوب، وحينَ ازداد اليهود في الناصرة، وبدأت بلدية الناصرة بتطوير السياحة في المدينة، ضاعت هوية الناصرة تمامًا، وبات تُجّار السوق حزانى على ماضٍ جميلٍ ولّى ولن يعود.
ففي يومٍ ما كانت الحياة جميلة في سوق الناصرة، كانت العلاقات الاجتماعية والإنسانية قوية أكثر ممَّا نعتقد، وكانت هناك لجنة للتجار ترعى شؤون التجار وتساندهم في الضائقة التي يمرون بها.
صحيح أنّ بلدية الناصرة غيّرت وفتحت أبواب السوق، لكنَّها في المقابل أغلقت روح الناصرة وسوقها، فلم يعد الرصيف الضيِّق من جانب واحد هو ما يعني وجود السوق. وحتى أصحاب المحال التجارية، ومعظمهم أصبحوا كباراً في السن، ما عادوا يتنقّلون في السوق، وتوقَّفوا عن الجدال لأنّ الوقت يسرقهم من الملاحظات الغريبة، همّهم اليوم إنهاء يومهم قبيل الحر، ثُمَّ الذهاب إلى الصلاة، ومن ثًمَّ العودة إلى البيت بهدوء.
من أقصى فلسطين إلى أقصى الجنوب، كانت الناصرة، مركزًا للوافدين، وكان سوقها محطَّ أنظار للكبار الصغار.
وأذكرُ الماضي البعيد حين كنتُ لا أتجاوز الخامسة عشرة من عمري، أخذتني أمي لشراء ملابس قُبيل عيد الأضحى المبارك، وكنتُ مشاكسة، لا أرضى بما تختاره أمي، كنتُ أحب الخيارات، لكنّ أمي تُصر على شراء ما يحلو لها، وليس ما يحلو لي.
اليوم وفي كل مرّة أكون فيها في مدينة الناصرة، أدخُل السوق، الذي يتغيّر رواده، لكن لا تتغيّر ملامحُ المكان، سوقٌ عربية بامتياز، لكنّ السياح الأجانب واليهود يدخلون السوق، معظمهم لا يشترون، أو يشترون ما ندر، والبعض يأتي للصلاة في كنيسة البشارة التي تستقبل فيها جميع البشر، على اختلاف ألوانهم ودياناتهم.
وفي الطريق إلى المدخل يصطفُّ المصلون عند ساحة شهاب الدين، هذه الساحة التي كانت سببًا في توتير العلاقات داخل مدينة الناصرة وشهدت معركة استمرت لأشهر، حتى تدخَّلَ كبار السياسيين من الحكومة الإسرائيلية ومن رؤساء الدول الأجنبية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
الواقع السياسي وتأثيره على السوق!
تعرُّجات وأزقّة وأرصفة مبلطّة، ومحال تجارية تقابل بعضها البعض، ملابس وتحف وأحذية وأثريات، وباعة أسماك وصاغة، وأنت تدخل سوق الناصرة كل هؤلاء تشاهدهم لا يتوقفون عن البحث والتنقيب في البضاعة المكدَّسة أمامهم، علّ الزبائن تقتنع بالشراء من يدي التاجر.
تتابع المسار بعد تجاوز سراديب وممراتٍ ضيّقة، ثُمَّ تنتقَّل إلى ساحة شكَّلها التجار بصناديق الخضراوات المتناثرة، إلى جانبها مخابز ومقاهٍ، وبائع الكعك يُصِرُّ على إقناعها بالكعك، قبل حلول شهر رمضان، وفي نهاية المطاف تصِل منطقة العين في الناصرة، لتتجوّل في ساحة العذراء، حيثُ وُلِدَ المسيح على هذه الأرض.
يؤكِّد أهل الناصرة أنّ الوضع الاقتصادي يزداد صعوبة من عامٍ إلى عام، خاصةً تُجّار السوق، كونهم تعرَّضوا في العام 2000، لشبه إخلاء من بلدية الناصرة، عندما بدأت بترميم المكان وتبليط أرضيّة السوق وتغيير أبواب المحال التجارية وإضاءة السوق، وترميم الأماكن الأثرية، هذه الحال جعلت جمهورًا كبيرًا من قاصدي السوق يُغيِّرون وجهتهم إلى أماكنَ أخرى، لتخف حركة الوافدين، ثُمَّ تعود وتنتعش في أيام رمضان وفترة الأعياد، وأيام الصيف عندما تكثر زيارات السياح الأجانب.
وكان لهذا الفراغ الذي تركته بلدية الناصرة، أثرٌ سيء على المدينة، التي انتعشت فجأة بالفنادق التي اشتراها اليهود، وبذلك سيطروا على سوق المدينة، المتنفَس الوحيد للتجار، بعد أنّ امتلأت مدينة الناصرة، بالمحال التجارية الجانبية، وبالمجمعات الكبيرة التي أثَّرت على حركة السير بشكلٍ كبير، وأعاقت حركة النصراويين، وربما جعلتهم أقل حركة وأكثر تذمُّرًا بسبب التغييرات التي شهدتها المدينة.
وفي شهر رمضان المبارك، يعود الزائرون إلى المكان، باحثين عن الأسعار المناسبة، يحملون لأطفالهم فوانيس رمضان، وحاجيات الزينة، ويستهويهم شراء اللّحوم والأسماك والهدايا، وقد لا يصدق كثيرون أنّ هناك عائلات تشتري حاجيات رمضان بالتقسيط المريح، بسبب الظروف المعيشية القاسية على حد وصف التجّار الذين يعرفون الواقع الصعب أكثر من غيرهم.
ويلتقي التجار على اختلاف صناعاتهم، على همٍ واحد وذكريات مشتركة، فجميعهم يحتفظ بدكانه الذي كان لوالده أو وجده يوم كانوا أطفالاً، أمَّا اليوم فتجاوزتهم السنون، هؤلاء كانوا يفدون للسوق في كل مناسبةٍ، وحين تغيّر الحال عليهم، تغيَّروا هم أيضًا، فملوا الزيارة المتكرّرة للسوق، وضاق الحال بهم ولم يضيقوا بالمكان، فللسوق رائحة زكيّة في نظرهم، ولا تضيرهم رائحة الأسماك ولا اللحوم، ولا حبُّ الاستطلاع المثير لبعض المشترين، الذين لا يحلو لهم سوى لمس الحاجيات وبعثرة كل ما هو مرتّب.
ويرى التاجر توفيق عزّام، الذي يملك حانوت بقالة وسط السوق، أنّ أكثر ما أضرَّ بالتجار هي المجمعات التجارية المتفرقة في منطقة الناصرة، ويضيف: "عندما كانت أماكن الوقوف مجانًا كان يسهل على الزائر أن يوقف سيارته قريبًا من السوق ويتناول حاجياته ويترك المكان، أمَّا اليوم، فبمجرد أن يضع سيارته أصبح يُخالَف بـ100 شيقل، وهو أجرة عاملٍ بسيط، فيقرر الزائر عدم العودة إلى السوق نكاية بالمخالفين".
وأشار عزام إلى أجمل العادات الرمضانية، وهي الكرم واحتضان الغني للفقير، ودعوته للعشاء، "هذه العادات التي قلّت في هذه الأيام، لكنَّها كانت مصدر إسعاد للمحتاجين"، على حد تعبيره، أمَّا أجمل ما يراه من مظاهر رمضانية فهي "صلاة التراويح" التي تعطي طابعًا دينيًا جميلاً وتقوِّي حركة الوافدين إلى الناصرة ليلاً.
"تفكيك السوق- الناصرة لعبة سياسية"
يرى كثيرون من أصحاب المحال التجارية في السوق، أنّ سياسةً عليا تقف وراء شلّ حركة الوافدين إلى السوق، فمن جهة لا يستطيع الزائر للمدينة إيجاد مكانٍ قريب للسوق، ومن جهةٍ أخرى تمَّ نقل كبار التجار من السوق إلى مجمعات كبيرة في منطقة الناصرة وضواحيها، وفوق هذا وذاك، فإنّ المشاكل المحلية بين فئةٍ وأخرى، تضر بحال التجار، وتدفع الزائر ليغيّر وجهته، ولا يسلك طريق السوق، ثُمَّ إنّ مشروع التواصل مع الضفة والقطاع، أضرّ بالتجار من فلسطينيي الداخل، والنتيجة ضربة قاسمة في ظهرهم، رغم الأسعار المعقولة التي يعتمدها النصراويون.
وفي هذا الصدد قال محمد أبو عرب لمجلة "القدس"، وهو تاجرٌ في سوق الناصرة، "كثيرون من أصحاب المحال التجارية في قلب السوق، يرون في وجودهم ثباتًا في الأرض، وحفاظًا على موروث حضاري وفلسطيني لا يمكن التفريط فيه، حتى لو كانت الظروف الاقتصادية سببًا في سوء الحال". وأشار أبو عرب، (وعمره من عمر النكبة)، إلى أنَّ وجود السوق بشكله الحالي وتاريخه العريق هو تأكيدٌ على التمسُّك بالأرض والهوية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها