تحقيق/ وليد درباس - إن تمسُّك الفلسطينيين بالحياة يدفعهم للثبات والصمود، والبحث عن الخلاص، ومواجهة الاستحقاقات وما تفرضه الأحداث الأمنية من تعكير للمناخات الداخلية، والحد من الإقبال على الحياة العامة، وتحقيق المبتغى بالحصول على لقمة عيش كريمة وتعليم يقي الأبناء عثرات الزمن، وينال من تطلُّعات الفلسطينيين المطلبية والوطنية وخاصة في مخيم عين الحلوة "عاصمة الشتات الفلسطيني".
معاناة يومية لساكني المخيمات
الفلسطيني النازح من سوريا خالد درباس، والبالغ من العمر 51 عاماً، هو واحد من المتضررين من الإرباكات الأمنية بسبب المعاناة اليومية التي يواجهها، ويصف معاناته قائلاً: "لم أغادر بيتي في مخيم اليرموك نازحاً سوى مرة واحدة بتاريخ 15/11/2012 باتجاه لبنان، بوقت نزحت فيه من سكني بروضة جمعية السبيل بالشارع الفوقاني في مخيم عين الحلوة أربع مرات خلال بضعة أشهر لتعرُّض الطابق العلوي لطلقات من الرصاص والقذائف"، ويضيف: "إرادة الله عزَّ وجـلَّ قضت أن نستبدل غرفة نومنا تلك الليلة بالغرفة الثانية من المخصَّص لنا من قِبَل القيمين على الجمعية، وإلا لبات كافة أفراد عائلتي أمواتاً أو جرحى أو لا قدر الله من ذوي العاهات".
هذا وتتألَّف عائلة درباس من 14 فرداً بما فيهم والده الثمانيني المريض وأُسر أبنائه. ولاستحالة إيجاد سكن وإن بالأجرة، قرَّر ذوو الأطفال الانتقال للإقامة بدار شقيق درباس المستأجر في المخيم لحمايتهم من جهة، وعلاجهم من الأذى النفسي الذي لحقهم من جهة أخرى، حيثُ يوضح درباس ما يتعرَّض له الأطفال قائلاً: "أحدهم يقفز في الليل ويدور حول الفراش، ثم يصرخ مرتعباً ولا يتمكَّن أهله من ضبطه وتهدئته إلا بعد جهد جهيد"، ويضيف: "الأطفال الآخرون باتوا يشعرون بالفزع لمجرد سماعهم صوت الرصاص أو المفرقعات". ويستغرب درباس وقوع النزاع بين العلمانيين والإسلاميين وفق مسموعاته، مشيراً إلى أن هذه النزاعات أرغمت العديد من النازحين على العودة مُكرهين إلى مخيم اليرموك أو السكن بالمناطق الأكثر أمناً بسوريا، في حين قام آخرون بتقديم طلبات هجرة إلى استراليا.
ورغم أن درباس رب عمل ناجح بمستوى جيد جداً ومن ذوي الحالات الميسورة ويملك دكاناً كبيراً، إلا أنه تركها خلفه بحثاً عن الأمن لأطفاله. وحول هذا الأمر يقول: "الفلسطينيون قبل نزوحهم كانوا يعيشون حياة هانئة ومستقرَّة، حيثُ أنهم لم يعتادوا ضنك الحياة أو ذلة السؤال والبحث بقنديل أو فانوس عن فرصة عمل أو انتظار معونة أو حصة تموينية أو مساعدة مالية بهدف الطبابة ولإجراء عمل جراحي وغيره ولا حتى من الأونروا"، ويضيف: "المساعدة المالية الدورية للأونروا تأتي كل شهرين وربما أكثر وهي لا تكفي لسد فاتورة الاطمئنان على ما تبقى من الأهل بسوريا، وتأمين القوت اليومي"، ويختم بالقول: "أتوجَّه للقوى الفلسطينية وأقول لها إن أفضل خدمة تقدمونها للنازحين هي أن تحافظوا على الأمن والاستقرار في مخيم عين الحلوة".
من جهته يشير الفلسطيني عيسى أبو العمرين، وهو سائق سيارة عمومية يبلغ من العمر 59 عاماً، إلى أن إيراداته من عمله في الأوضاع الطبيعية في مخيم عين الحلوة لا تؤمِّن قوت عائلته المؤلَّفة من 6 أفراد، لافتاً إلى أن الحال تزداد سوءاً جرَّاء الأحداث الأمنية، حيثُ أنه لا يملك أية مدخرات تسعفه حين يتعطَّل عمله بحكم الأحداث، ويضيف: "استأجرت نمرة عمومية بمبلغ 175000 ليرة لبنانية شهرياً مهما كانت إيراداتي. ومقابل كل ساعتَي عمل فأنا استريح قليلاً خاصةً أنني قد ركَّبت مفصلاً بإحدى ساقي، ولجانبه لدي عمليات أربطة وكسور.. والحمد للـه". وتكمن المشكلة في أن الأحداث الأمنية تحرم أصحاب العمل المياوم من تحصيل قوتهم كونهم مجبرين أقله على عدم مغادرة المخيم تحسُّباً من المجهول وفقاً لحديثه، وعطفاً على مشاكل العاملين في قيادة سيارات الأجرة يقول: "كذلك نواجه انتشار الحفريات في الطرق وخاصة بالشارع الفوقاني، والشوارع تضيق يوماً بعد يوماً بسبب تعدي أصحاب المحلات على المساحات الملاصقة لمحلاتهم، والازدحام، إضافةً إلى مشاكل الوقود وفوقها تأتي الأحداث الأمنية. لذا فكل هذه المشاكل وخصوصاً الشق الأخير بات يدفع البعض من السائقين للعمل مكرهين خارج المخيم بصيدا وإن تسبَّب ذلك بقلة مدخولهم باعتبار المخيم مكتظَّاً بالناس وحركتهم من وإلى صيدا أفضل من الجوار"، وبخصوص التعويض على المتضررين يرى أبو العمرين"أن التعويض على المتضررين شيء ايجابي بحال توفَّرت السيولة، فظروف "م.ت.ف" لم تعد كسابق عهدها، ولكن هناك أيضاً مسؤولية تقع على المتسببين بالضرر"، ويتساءل"من يعوِّض عن فقدان الابن أو أحد أفراد العائلة؟".
أمَّا سوق الخضار وما فيه من محلات بيع سمانة وألبسة جملة ومفرق، مضافاً لذلك محلات الخضار ولجانبها عربات الخضار وغيرها فهي برأي الفلسطيني عطية حجازي "الشريان الرئيس للحركة الاقتصادية في المخيم، ومدخل مهم جداً لمئات العائلات. فالناس يقصدونه من مدينة صيدا، ووادي الزينة، ومن شحيم أيضاً لرخص أسعاره". وعطية البالغ من العمر 43 عاماً هو رب أسرة من خمسة أفراد. بُترت ذراعه اليسرى زمن الحرب، وانتقل للعمل من معلم ورق لبائع خضار. حاجته لمعين دفعت شقيقه لمشاركته، وارتضى بمناصفة الربح بينهما، بوقت لا يتجاوز نصيب أحدهما 15000 ليرة لبنانية. ولكن عطية وشقيقه أبو هشام تقتصر بضاعتهما على المواد غير القابلة للتلف كالثوم، والتمر، والبصل كي لا يكون مصيرها الفساد والالقاء في مستوعبات القمامة لدى إغلاق المحلات عند حصول الأحداث الأمنية كما يحصل أحياناً مع باعة أنواع أخرى من الخضار، ويضيف: "بسبب المشاكل فإن الناس يتوقفون عن القدوم للمخيم، وبعد أسبوع من الهدوء تعود الحال لطبيعتها". غير أن الوضع الصحي لعطية يستدعي منه البيع داخل محل، فيما يبدو تجيير مساعدته من الشؤون الاجتماعية بالأونروا لصالح إقامة مشروع أمراً مستحيلاً بسبب أجرة المحلات الباهظة التي تصل إلى 500 دولار وما فوق. وحول الحل الذي يراه مناسباً يقول: "يجب أن تبحث اللجان الفلسطينية من جديد بمشروعها الخاص بتحويل كراج بليبل المحاذي للسوق لسوق مؤهَّل بسقف وإنارة وتنظيم لاستقبال 60 إلى 70 عربة خضار موجودة حالياً بالسوق".
مسببات الإرباكات الأمنية وانعكاساتها
يرى أمين سر اللجان الشعبية الفلسطينية في منطقة صيدا مسؤول القاطع الخامس، قاطع صفورية، أبو هاني موعـد أن حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الإنسانية والاجتماعية وفقدانهم لفرص العمل في لبنان يعدُّ أحد الأسباب الهامة المؤدِّية لنشوء حالة من الحرمان والاحتقان النفسي بالوسـط الفلسطيني وخاصة في مخيم عين الحلوة، ويضيف: "جرَّاء اكتظاظ المخيم بالسكان واستقباله للاجئين الفلسطينيين من سوريا، إضافةً إلى السكن العشوائي العامودي، وزحمته بالأفراد، وانعدام الأفـق...إلـخ، فإنَّ البعض يندفع للهرب من الاحتقان بارتكاب المشاكل والتنازع، وعدم حل الأخير بشكل جذري وبحينه يحوِّله لقنابل موقوتة تتجلَّى فيما بعد بالنزاعات الفردية، وتتطور لتُصبح أحياناً نزاعات تطال الأسر وربما بين عائلة وأخرى، وتصل حـد إقحام التنظيم بها وصولاً لدرجة استخدام السلاح، لـذا فالاحتقان بعين الحلوة بات بمثابة ظاهرة". والسبب برأي أبو هاني يعود لغياب المرجعية الفلسطينية الموحَّدة جرَّاء الانقسام الفلسطيني، وحالة التكاذب وأقله حيال تشكيل قوة أمنية وطنية إسلامية فلسطينية مشتركة يدعمها الجميع بالأفراد ويُوفر لها العتاد والغطاء والصلاحيات، ولحينه يقول الموعـد "ستبقى كافة مناحي الحياة بالمخيم عرضة للتأثر بأحداث الاحتراب صغيرها وكبيرها". ويؤكِّد أبو هاني أن تكرار حالة الاحتراب بات يدفع الكثيرين لليأس، عوضاً عن شد الناس للتمسُّك بحق العودة وفق القرار 194، لتُصبح أولوياتهم البحث عن الأمن والاستقرار ولقمة العيش، ويزيد: "الآثار السلبية تطال المستوى الاقتصادي، والاجتماعي، والتربوي، والنفسي وغيره. فعوائل المخيم وخاصة الحوامل من النساء بتن عُرضة للإصابة بـداء السكري نتيجة الرعب الذي يشعرن به، بوقت أصيب فيه العديد من الأطفال بردات فعل واكتئاب، ولأكثر من مرة نال الذعر والخوف والهلع من تلاميذ المرحلة الابتدائية بالأونروا، ناهيك عن سلبيات الاحتراب على إقبال الطلبة واستعدادهم لامتحانات الشهادَتين الرسميتَين للمرحلة المتوسطة والثانوية". وبخصوص النشاط الاقتصادي، ينوِّه أبو هاني لحصول تراجع بحركة التسوُّق بفعل ارتفاع حدَّة الأحداث الأمنية ولا سيما في الآونة الأخيرة، مما شكَّل عاملاً غير مشجِّع لأهل الجوار والمحيط للتسُّوق من المخيم كعادتهم، وانعكس بالتالي سلباً على مدخول الباعة المياومين والتجار أيضاً ومستوى معيشة الأسر في المخيم. ويلفت أبو هاني إلى أن الاحتراب يحول دون إقبال الجمعيات الإنسانية-الحقوقية الدولية والمحلية الداعمة على زيارة المخيم لتقديم الدعـم وتنفيـذ المشاريع المستدامة، في إشارة لتأجيل عقد اجتماع المؤسسات الدولية بخصوص تحسين البنية التحتية للتجمُّعات الخارجة عن نطاق خدمات الأونروا لعـدة مرات، ويضيف: "كذلك فاللجان الشعبية لم تعد بمنأى عن تداعيات الاحتراب. فمقراتها تُغلق وإن لحين وتربك مساعي ومسؤوليات أعضائها حيال قضايا وحاجات اللاجئين وخاصة من أهالي مخيمات سوريا، ويتراجع مستوى تقديم الخدمات الصحية لعيادات الأونروا أيضاً، ومعها مسؤوليات أصحاب الملف الصحي باللجان الشعبية ومتابعتهم لشؤون المرضى. كما يُعيق الاحتراب تنفيذ مشروع البنية التحتية الذي انتظره المخيم لعدة سنوات، ناهيك عن الخسائر المادية المترتبة على اللجان جرَّاء تصليح الأعطال بالتوتر الرئيسي لشبكة الكهرباء، وبعض المولِّدات الخاصة بتشغيل الآبار الارتوازية، ولجانبها متابعة قضايا أخرى ذات صلة بالأضرار التي لحقت ببيوت الأهالي، وسياراتهم، وعقاراتهم وأملاكهم ... الـخ".
التداعيات النفسية والاجتماعية
من جهتها تشير الأخصائية النفسية رانيا سليمان إلى أن الآثار السلبية لأي حالة أمنية تطال الجميع وخصوصاً النساء والأطفال. فالنساء برأيها هنَّ الأشـد تأثُّراً بالأحداث مما يُصيبهن بالتوتر ويؤدي بالتالي لتعاطيهن مع أطفالهن بعصبية على حساب دعـمهم الإيجابي، في وقت لا يتوفَّر فيه لأطفال المخيمات أماكن وملاعب للّهو والتسلية، حيثُ أن بيوتهم وحاراتهم غير مؤهَّلة للعب، وتضيف: "الأطفال يتضررون أيضاً جرَّاء عدم فهمهم لما يرونه حولهم من عنف وتعنيف كالأصوات القوية، والصراخ، وعدوانية الشارع، وصوت الرصاص والمفرقعات، والاقتتال، وغيره، وهذا ما من شأنه أن يعرِّضهم للإصابة بالخوف، والانطوائية، والتوتر والانفعال الشديد، والعدوانية مع الآخرين... الـخ"، ويتجلَّى ذلك بالتبوُّل والتبرُّز اللإرادي ليلاً أو نهاراً وقد يصل حد الإصابة بالصرع".
وللحد من هذه المشكلة فقد قام مركز الاستماع التابع لإتحاد المرأة وتديره سليمان باستقبال العديد من هذه الحالات التي يعمل على علاجها، إلى جانب توعية النساء والأمهات للحد من تأثُّرهم بالعنف تحسُّباً لنقله لأطفالهن وإن بشكل عفوي، وتنبيه المربيات للسلوكيات العنيفة التي يلجأ إليها الأطفال وبعض الألفاظ الدالة على العنف. وتختم سليمان بالقول: "لقد وجدنا بعد معاينة حالات الأطفال في أكثر من مخيم أن أطفال مخيم عين الحلوة هم عُرضة لأكبر حصة من العنف".
أمَّا المشرفة التربوية نهى الخطيب فتشير لوقوف الحظ إلى جانب دار روضة نبيلة برير التي تعمل فيها منذ 26 عاماً لخلُّوها من العاملين والأطفال زمن وقوع الأحداث الأمنية، كون الموقع الجغرافي للدار يتوسَّـط مكتبَين تنظيميَين، وتستذكر مفاجأة الدار عام 2006 عندما وجدوا أن سقف مكتب القيادة العامة قد سقط بمحاذاة الروضة وعليها جرَّاء قصف الأخير بصاروخ إسرائيلي، وتضيف: "الروضة لم تغلق جرَّاء الأحداث الأمنية الطارئة التي يشهدها المخيم أحياناً، والتأثَّر الذي يصيب الرياض ومقرات المجتمع الأهلي في المخيم هو ذاته ما يصيب روضتنا. لذا فنحن نفتح ونُغلق بالتوازي مع سير عمل مقرات الأونروا في المخيم"، وتكمل: "من الطبيعي أن يتخوَّف الأهالي، ويتوقف البعض عن إرسال أطفالهم للروضات، ولكن بزيارتهم للدار تنتهي هذه الحالة، بدليل ازدياد إقبال الأهالي على تسجيل أطفالهم بالدار عن ذي قبل. وحالياً فإن الدار تضم 100 طفل، و15 طفلاً بدار الحضانة، إضافةً إلى 100 طالب يتلقون دروس تقوية من صف السادس وحتى الصف الثامن".
انتفاضة الأهالي لحل الأزمة
يلفت منسِّق المبادرة الشعبية بعين الحلوة جهاد الموعـد إلى أن معرفة الناس بالمبادرة الشعبية جاءت نتيجة دورها بدفع ما أمكن من الأهالي لأخذ مواقف جريئة ضد النزاعات المسلَّحة، وبالسياق إياه يقول: "يمثِّل نزول المبادرة إلى الشارع أسلوباً احتجاجياً على النزاع الداخلي وإطلاق النار والرصاص وترويع الآمنين، وقد كان خلاصة نقاشات مطوَّلة ومستفيضة وعصيبة بالمبادرة، بسبب التخوُّف من فشل فكرة النزول للشارع، وعدم تقبُّل الناس للمشاركة في مواجهة العنف المسلح باللاعنف.. وباللحم الحي"، ويضيف: "والآن فعوضاً عن استمرار الاشتباكات لساعتَين أو يومَين، باتت تستمر ليوم واحد أو لساعة واحدة". وحول ردة فعل الناس على هذه الفكرة ينوِّه جهاد الموعد إلى أنهم في البداية تخوَّفوا قليلاً ولكن عدد المشاركين ما لبث أن ازداد، ثمَّ يستدرك: "حتى أنه بالرغم من إطلاق بضع رصاصات فوق رؤوسنا وبالقرب من المحتجين لتخويفنا، ولكن الناس كسروا حاجز الخوف وتمكَّنوا من إيقاف إطلاق النار، وللمرة الثالثة نجحوا بفض الاشتباك، واثبتوا أن قدرتهم تتعدَّى قدرة المسؤولين في القوى الفلسطينية. فقدرة بعض المسؤولين على السيطرة على مسلحيهم بغض النظر عن الذرائع تكون ضعيفة، كما أن آخرين يماطلون ومساعدتهم للمبادرة ليست كما يجب. ومن هنا فعلينا التوحُّد معاً لئلا نخدم العدو بطريقة غير مباشرة. فنحن لا نريد أن يحاربنا أحد، ونشدِّد على أننا مع كافة القوى والتنظيمات، ومع الجوار وكل ما يفيد الأمن والاستقرار".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها