تحقيق/ ولاء رشيد
مجلة القدس/ بين المخيم والمخيم أصبح هناك مخيم آخر، ولنكبة فلسطين عام 1948، تضاف قصة تهجير جديدة تروي فصولها عيون الأطفال الشاخصة نحو الأفق. هي عيون يعجز الناظر عن إغفالها أو محاولة التهرُّب من النظر إليها، تماماً كالطفلة شهد التي تحاصرك بنظراتها، فتقرأ في عينيها كم بخلت عليها الدنيا بتحقيق أحلامها التي لا يتعدى أكثرها جموحاً البيت الآمن والسقف الواقي والنوم على فراش والحصول على القوت اليومي، وهكذا تختصر شهد بنظرة واحدة ترنو بها إلى السماء بين تارة وأخرى أحلام المهجَّرين الجدد القدامى بعد نكبتهم الجديدة.
وللقصة تكملة أخرى
عند الخط المحاذي للسكة الحديدية سابقا. يقبع تجمُّع يأوي عشرات العائلات النازحة من سوريا، مقابلاً لمؤسسة بدر الثقافية الاجتماعية الصحية. أسماه أهله مخيم الكرامة علَّ الاسم يطبع أصحابه ويحفظ لهم كرامتهم التي لم يعودوا يملكون سواها. ورابعة توفيق طه هي إحدى الذين لجؤوا وعائلاتهم إلى التجمُّع بعد أن ضاقت بهم السبل وأعياهم السؤال. تعيش منذ 4 أشهر في غرفة في المبنى هي وعائلتها التي باتت تتألَّف من 9 أفراد مع ولادة حفيدة لرابعة، جاءت لتشاطر العائلة معاناتها. وحول أبرز ما تواجهه من صعوبات تقول: "مذ كنت في سوريا كنت أتلقى معونات بسبب إصابة زوجي بمرض مزمن، لذا فعندما نزحنا إلى هنا كنا في حالة يرثى لها. وفي البداية قدَّمت لنا الأونروا مساعدة مالية ومعونات، غير أنَّها انقطعت الآن، وما يصلنا من المؤسسات قليل جداً. ولكن أكثر ما نفتقر إليه هو احتياجات الأطفال والدواء الذي نشتريه على نفقتنا"، مشددةً على أن التغطية الصحية حاجة ملحة وهو ما يشاطرها إياه كل من علي أحمد الذي يقطن في الغرفة المجاورة لغرفتها، هو وعائلته المكونة من 7 أفراد، وحنان أحمد والدة الطفلة دلال ذات الإثني عشر ربيعاً التي تعاني فقراً حاداً في الدم جعلها حبيسة الغرفة لا تغادرها حتى للمدرسة خشية أن تتدهور صحتها. غير أن علي أحمد
يستدرك ليقول: "معاناتنا لا توصف. فبالإضافة لظروف إقامتنا، نحن نعاني يومياً لتأمين ربطة الخبز وتوفير المصروف اليومي، إضافة إلى تكاليف أجرة المواصلات، وكل ذلك في ظل أزمة البطالة التي نعانيها. ولو أن العمل متوفِّر لنا لكنَّا اكتفينا ذاتياً واعتمدنا على أنفسنا، ولكن ما الحل وأهل البلد أصلاً لا يجدون عملاً"، ويضيف: "كذلك زوجتي أُدخلت إلى المستشفى مؤخَّراً لأنها تعاني فقر دم شديد. أمَّا أطفالي فقد خسروا هذا العام الدراسي لأننا وصلنا متأخرين ولم يستطيعوا مجاراة ما وصل إليه زملاؤهم من دروس فاختاروا البقاء في البيت". أمَّا حسام علي، فهو من أقدم نزلاء التجمع. رجل كفيف ورب أسرة مكونة من 6 أفراد. تعاني زوجته مرضاً في القلب، ولكن مشكلته الكبرى تكمن في أنه كان يأخذ أدوية من وزارة الصحة في سوريا للمناعة والمفاصل ولكنه لم يجد بديلاً عن هذه الأدوية في لبنان. يصمت قليلاً ثمَّ يردف بحسرة: "لم أترك أحداً إلا ولجأت إليه وطرقت أبواب كافة المؤسسات.حتى أن ابني وهو في الصف السادس أصبح مؤخَّراً يشكو من غشاوة في عينيه. ولكن المشكلة الكبرى هي أن الجميع مقصِّر وخاصة الأونروا، حيث أنها منذ إقامتنا هنا لم تعطنا سوى ثلاث دفعات مالية في أشهر كانون أول وشباط ونيسان"، ويضيف: "وفوق كل ذلك فنحن ليس لنا عمل هنا ولا حتى حقوق مدنية أو إنسانية.كما أن البعض يتعامل معنا بتمييز عنصري". فيما تصارع أمل محمد الرخا وعائلتها المؤلَّفة من سبعة أفراد من النساء والأطفال الأمرَّين، بسبب غياب زوجها، ووفاة زوج ابنتها مخلِّفاً وراءه طفلة لا تكاد تبلغ من العمر سنة، وحاجة العائلة الماسة للدواء وخصوصاً الأطفال، في مقابل تقديمات ومساعدات جد خجولة من كافة الأطراف.
الخيمة شاهدة على النكبة الجديدة
وللخيم طعم آخر لا يعرفه إلا من التاع منه واكتوى بناره، أو هذا على الأقل ما تقوله أم حسين، لتعود وتضيف مستهزئةً: "في حياتنا لم نسمع من أهلنا الذين هُجِّروا عام 1948 عن معاناة مريرة كهذه. طفلاي ينامان يومياً على الأرض، أمَّا أنا فلا يغمض لي جفن. وكيف أنام وكل يوم يتسلَّل إلى خيمة من الخيم ثعبان أو جرذ أو حشرة كبيرة وبتنا نخشى أن تنقل لنا الأمراض خاصة أن البعض باتوا يعانون الأمراض الجلدية"، ثمَّ تزيد: "يجب بالحد الأدنى أن يأتي أحد ليرش المكان بالمبيدات الحشرية بشكل دوري. كذلك فنحن بأمس الحاجة للجنة طبية تأتي كل أسبوع على الأقل لفحصنا وتشخيص حالاتنا المرضية وصرف الأدوية لنا".
وإذا كانت الخيم قد أوجدت حلاً بدائياً لأزمة الإيواء، فالبعض لم يقوَ على تحمل تبعات وسيلة الإيواء هذه كداوود أبو ناهي الذي استأجر مع أسرته غرفة ملاصقة للخيم بـ250 ألف ليرة لبنانية، وذلك بسبب وضعه الصحي حيث ُأن سنه وحالته الصحية لا تسمحان له بالمكوث في خيمة، إلى جانب وضع ابنته عائشة المصابة بحالة جلطة دماغية، وإصابة زوجته بمرض السكري، في ظل حاجتهم الماسة للأدوية والاحتياجات الخاصة بالمسنين وعدم تغطية الأونروا أو أي جهة أخرى لثمنها. ولا تنتهي مشاكل العائلة عند هذا الحد حيثُ أن العائلة لم تعد تمتلك أجرة الشهر الجديد، في مقابل عدم تغطية الأونروا لبدل إيجار للعائلة بحسب أبو ناهي الذي يقول معلِّقاً: "قليلون هم الذين يلتفتون إلينا وليس بالشكل المطلوب، وحتى الأونروا فهي لم تعطنا بدل إيجار، كما أن المساعدات الشهرية لا تُعطى لنا بشكل منتظم ودوري. ولكنني لا أطلب إلا سريراً لأنام عليه فحالتي لا تسمح لي بالنوم في أي مكان".
غير أن أميرة إبراهيم ترى أن الإشكاليات لا تنتهي، معلِّقةً: "حتى المياه التي لم تكن تصلنا وبعد أن وصلتنا وجدناها بالميكروبات والبكتيريا الضارة، وكل يوم يمرض أطفالنا ولا أحد يقدم لهم الأدوية أو العلاج. ولكن الكلام لم يعد ينفع فماذا سنقول؟ أنقول أننا لا نملك قوتنا اليومي، فيما الأونروا لم تعطنا شيئاً منذ حوالي 3 أشهر، ولا أحد يلتفت إلينا إلا بضع فاعلي الخير أحياناً أم تريدوننا أن نتحدث عن الظلم الذي نتعرَّض له وعن بطالة الشباب. أم نتكلم عما نعانيه في هذه الأوضاع التي لا تليق بالإنسان. بين هذه الخيم جميعها لا يوجد سوى آلة غسيل واحدة وبضع حمامات تمَّ تركيبها وهي تبعد مسافة عن بعض الخيم فكيف نذهب إليها في المساء وسط خوفنا من الحشرات والزواحف؟!"، وتختم قائلةً: "قمنا بالاعتصام مرة واحدة ولكنّ أحداً لم يسمع صوتنا. راحت سوريا وراحت فلسطين فإلى أين نذهب؟!". أمَّا خالد موسى فيقول: "منذ 3 أشهر لم تعطنا الأونروا شيئاً، ومعاناتنا يومية بين تأمين الطعام وتأمين كلفة العلاج ناهيك عن الأمراض الجلدية التي أخذت تتفشى بيننا. ومن هنا فنحن ندعو إلى تشكيل لجنة طبية تزور التجمُّع بشكل أسبوعي للكشف على الموجودين وتشخيص حالاتهم وتأمين الأدوية لهم. كما نطالب بلجنة نظافة تشرف على رش التجمُّع بالمبيدات وتجد حلاً للنفايات التي أخذت تزاحمنا في مكان عيشنا، وتوفر لنا أجهزة تبريد في الصيف الحارق، هذا عدا عن مطالبتنا بالسكن اللائق. فأين الأونروا، أليست هي المسؤولة عنا؟!"، ثمَّ يردف: "العالم كله يرانا، ولكنه لا يريد أن يساعدنا لأننا فلسطينيون كُتب علينا التشرد".
من جهتها ترى أم فايز والدة خالد موسى أن معاناة نكبة عام 1948 لا تقارن بالنكبة الجديدة مضيفةً: "هُجِّرنا من فلسطين من قرية المفتخرة إلى الجولان وكنت أماً لطفلين، ورغم كل ما حلَّ بنا إلا أن ذلك لا يُقارَن بفظاعة ما حدث معنا هنا. فنكبة فلسطين كانت أسهل بكثير مما نعانيه الآن، ولو خيروني بين بقائي هنا أو الذهاب لصحراء فلسطين لاخترت فلسطين، لأن بقاءنا في أي مكان مؤقت ونحن يجب أن نعود عاجلاً أم آجلاً، لذا يكفي الدول العربية متاجرة بنا"، ليعلو صوت أم علاء بالقول: "نحن نتمنى العودة لفلسطين لأن الذي يخرج من ثوبه يعرى وثوب العيرة لا ينفعنا. نحن الفلسطينيين أهل العزة والكرامة كتبنا على خيمنا مخيم الكرامة لنخدع أنفسنا بأننا لازلنا نملك بعضاً من كرامتنا. فإلى متى نستمر على هذه الحال؟!".
أزمة ذات أبعاد متعددة
وحول نشأة هذا التجمع، يوضح قائد قوات كتائب الأقصى مسؤول مؤسسة بدر الثقافية الاجتماعية الصحية اللواء منير المقدح أنه بعد ارتفاع وتيرة النزوح إلى عين الحلوة، نشأت أزمة إيواء شديدة استدعت توفير حلول طارئة، فكان الحل إيواء أكبر عدد ممن هم بلا مأوى في مبنى مجمع الشيخ زايد غير المكتمل المقابل لمؤسسة بدر وفي الساحة المحاذية له، ويضيف: "منذ حوالي 8 أشهر استقبلنا في البيت الأبيض 18 عائلة، إضافةً إلى 27 عائلة تسكن في مبنى مجمع الشيخ زايد، و50 عائلة تسكن في الخيم، ولا زالت العائلات الجديدة تتوافد، وحالياً هناك 204 عائلات تطلب خيماً كما أن بعض الشبان هنا يستضيفون عدداً من العائلات في منازلهم. ونحن كجمعية بدر أخذنا على عاتقنا الإسكان والمساعدات ونتعاون أحياناً مع المؤسسات ونتصل بالخيِّرين لتأمينها. وعلى سبيل المثال فقد جاء فاعلو خير وعرض إقامة وجبة غداء لـ300 شخص، وحالياً ستصلنا 20 خيمة جديدة ونحن نعمل على ترميم الخيم. من جهة ثانية فالأونروا وافقت على تحمُّل تكلفة بناء 8 غرف دون ورق ولا بلاط في المجمع، وهناك فاعل خير وافق على تحمُّل تكلفة 4 غرف وفي حال إتمام بناء هذه الغرف فذلك سيوفِّر مكاناً لـ30 عائلة تقريباً، علماً أن تكلفة الغرف الثمانية تبلغ حوالي 18 إلى 19 ألف دولار أميركي، وفي حال وجدنا الدعم الكافي فسنستكمل بناء وترميم المبنى بكامله مما سيوفٍّر مأوىً لأكثر من 90 عائلة".
وحول أبرز الصعوبات التي تعترضهم في مساعدة النازحين يقول المقدح: "للأسف فتقديمات الأونروا لا تسدُّ رمقاً في ظل مشاكل السكن والصحة، حيثُ أنها تتكفل بتغطية جزء من كلفة العلاج، بينما يشتري المرضى أدويتهم على نفقاتهم. أمَّا الحالات الطارئة فنحن نسعفها لمستشفى الأقصى التابع لنا ونعالجها مجانياً، مما أثَّر على رواتب الموظفين في المستشفى حيث أن الموظفين لم يقبضوا رواتبهم منذ 4 أشهر وحتى الآن لا أحد يدعمنا أو يسألنا عمَّا نحتاجه والجميع مقصِّر بدءاً بالأونروا وانتهاءً بالفصائل الفلسطينية والمؤسسات الاجتماعية والإنسانية، فحتى المبالغ التي تقدمها "م.ت.ف" غير كافية ولكننا في الوقت نفسه ندرك الظروف الصعبة التي تمرُّ بها السلطة الفلسطينية. غير أن التجمُّع يفتقر إلى العديد من الأشياء وعلى رأسها صب الأرض بالباطون ورش المبيدات الحشرية، إضافةً إلى أزمة الحمامات المشتركة المحدودة والبعيدة عن بعض الخيم، وحتى خزانات المياه فهي لا تكفي واشتراك الكهرباء تمكنَّا من تأمينها مؤخراً ولكننا طلبنا مولدات (ترنسات) جديدة ونحن نحاول جاهدين بناء غرف خاصة مع تأزُّم الأوضاع في الخيم بفعل ارتفاع الحرارة". ويضيف: "الجدير بالذكر أن 90% من الموجودين في التجمع هم من الأطفال والنساء، وهذا واقع صعب جداً. ونحاول الاتصال بتجار المخيم ولم نترك مجالاً أو وسيلة لمحاولة تأمين الأساسيات لهم على الأقل ولكن أولويتنا هي الإسكان. وكذلك فنسبة التسرُّب المدرسي وصلت إلى 70%، وذلك بسبب صعوبة التنقُّلات من جهة وبسبب انشغال الأهالي بتأمين القوت اليومي الذي يشكل أولويةً على سائر الأمور".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها