رام اللـه/ امــل خليفة
مجلة القدس/ عملت إسرائيل جاهدةً منذ احتلالها للقدس في العام 1967 للسيطرة عليها وتغيير معالمها، بهدف تهويدها وإنهاء الوجود العربي والإسلامي فيها، وقد استخدمت لأجل ذلك الكثير من الوسائل وقامت بالعديد من الإجراءات ضد المدينة وسكانها، ومنها الاستيطان في المدينة وفي الأراضي التابعة لها، وسحب الهويات من المقدسيين، ومصادرة آلاف الدونمات من الأراضي التابعة للقرى التي أُقيمت عليها المستوطنات، وتطويق التجمُّعات السكنية الفلسطينية والحد من توسعها، إضافة إلى تهديد بعض التجمعات السكانية الفلسطينية بالإزالة بغرض إبقاء فلسطينيي القدس وضواحيها في حالة خوف ورعب دائمَين، إلى جانب الاعتداءات المتكرِّرة عليهم من قِبَل المستوطنين المدجَّجين بالسلاح، وانتهاءً بعزل مدينة القدس وضواحيها عن محيطها الفلسطيني في الشمال والجنوب. كذلك سعت إسرائيل خلال العقود الماضية إلى استكمال المخطَّط الاستيطاني من خلال توسيع ما يُسمَّى بحدود القدس شرقاً وشمالاً، مما أدى إلى مضاعفة عدد المستوطنين وتقليل نسبة السكان العرب الفلسطينيين في القدس في الوقت ذاته.
سياسة واضحة وتدرُّج في التطبيق
مارست دولة الاحتلال الإسرائيلي سياسة تهجير الفلسطينيين من مدينة القدس من أجل خلق واقع جديد يكون فيه اليهود النسبة الغالبة في المدينة، وقد وضعت الحكومات المتعاقبة لدولة الاحتلال مخططات من أجل ذلك، وهو ما أوضحه مسؤول الخرائط في بيت الشرق في القدس خليل التفكجي قائلاً: "هناك سياسة إسرائيلية واضحة وُضِعت منذ احتلال القدس في العام 1967، باعتبار القدس عاصمةً للدولة الإسرائيلية. وبالتالي فما قامت به هذه السلطات عبر العقود الماضية هو استمرار لهذه السياسة. واليوم فإنَّ الهجمة قد ازدادت حدتها باعتبار أن الأماكن المقدَّسة للمسلمين في القدس هي أكثر الأماكن قدسية لليهود، وأن الهيكل المزعوم هو في نفس موقع المسجد الأقصى. ومن هنا فقد بدأ اليهود بإدخال المستوطنين بشكل تدريجي إلى داخل ساحات الأقصى، عقبه إعلان هذه الساحات ساحات عمومية، ثم الانتقال لإدخال المستوطنين للصلاة، وأخيراً صدور فتوى جديدة من الجانب الإسرائيلي بأن الصلاة يجب أن تكون لجميع الديانات في المسجد، وأن باحات الأقصى يجب أن تقسَّم ليتمَّ بناء الهيكل فيها. فالجانب الإسرائيلي بدأ بعملية تدريجية منذ سنوات، واليوم ونتيجة الأوضاع التي تحيط بمدينة القدس، والتي تحيط بالمنطقة العربية ككل، فقد أخذ الإسرائيليون القرار لتطبيق التقسيم في المسجد الأقصى على غرار ما تمَّ في الحرم الإبراهيمي منذ سنوات، ليكون تقسيم المسجد خطوةً أولى لهدمه ومن ثم بناء الهيكل المزعوم في مكانه".
الدور الأردني والمصالح الإسرائيلية
يلفت التفكجي إلى أن الأردن منذ عشرات السنين كان له دور هام في الإشراف على المقدَّسات والأوقاف في مدينة القدس، مشيراً إلى أن هذا الدور يحتاج لمساندة عربية ودولية، ومضيفاً: "الأردن له الحق في الإشراف على الأماكن المقدَّسة في المدينة حسب الاتفاق الأخير بين الفلسطينيين والأردنيين الذي وُقِّع مؤخَّراً في عمان وذلك لتجديد هذا الدور. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأردن له الحق بالإشراف على ما يقارب 144 دونماً وهي الساحات في المسجدَين الأقصى وقبَّة الصخرة، بالإضافة للأوقاف الإسلامية في المدينة. والأردن لكونه دولة سيادية ذات مؤسسات معترف بها منذ عقود طويلة في العالم، فسيكون له دور كبير في هذا الأمر، ولكن هذا لا يعني أن الجانب الإسرائيلي يهتم لهذا الموضوع. فاتفاقية وادي عربة نصَّت على أن إسرائيل تتفهم الدور الأردني في الإشراف على المقدَّسات الإسلامية في القدس، ولكن الجانب الإسرائيلي لا ينظر إلا إلى مصالحه فقط، وقد يتمكَّن الأردن عبر المؤسسات الدولية من الضغط على الجانب الإسرائيلي، ولكن ليس بالضرورة أن يُزيل ذلك بناء الهيكل المزعوم من الإستراتيجية الإسرائيلية وإنما يمكن أن يؤجِّل التنفيذ".
خلق أمر واقع لمنع تقسيم المدينة المقدَّسة
حول سياسة الأمر الواقع الإسرائيلي يلفت التفكجي إلى أنها خلقت وضعاً على الأرض يصعب معه إقامة عاصمتَين لدولتَين في القدس، ويردف: "الجانب الإسرائيلي، ومنذ العام 1967، يتدرَّج في تنفيذ سياسته بتهويد القدس والسيطرة عليها وخلق أمر واقع يصعب معه تقسيم المدينة من خلال إدخال الشرطة للمدينة ولباحات المسجد، ووضع آلات التصوير والأسلاك الالكترونية للمراقبة، واشتراط الحصول على تصاريح لمن يريد الدخول للمسجد، ومن ثمَّ التحكُّم بالداخل والخارج من المسجد. فالجانب الإسرائيلي كان لديه الوقت الكافي لانجاز هدفه، بل تمَّ الانتهاء من المراحل الأخيرة لهذه السياسة ومن الممكن الآن وفي أية لحظة تنفيذ الخطوة الأخيرة في السياسة الإسرائيلية، ألا وهي السيطرة الكاملة على القدس وعلى المسجد الأقصى وإخراج كل ما هو فلسطيني عربي مسلم مسيحي من هذه المدينة، في ظل العوامل المهيِّئة لذلك بفعل الانقسام الفلسطيني والوضع العربي المتردي والدولي، ممَّا يشجِّع على استمرار هذه الحملة بحق القدس".
الواقع الاستيطاني في فلسطين
من جهته يشير مدير مركز القدس الحقوقي زياد الحموري إلى أن الاستيطان الإسرائيلي لم يتوقف رغم توقيع اتفاقية السلام، ويعلِّق بالقول: "الاستيطان الإسرائيلي شمل كل الضفة الغربية بما فيها القدس ولم يتوقف ولا دقيقة منذ أوسلو وحتى اليوم. وبالرغم من أن وقف الاستيطان منصوص عليه في الاتفاقيات، فمن الواضح أن الإسرائيليين يشعرون بقوتهم في هذه الفترة، لذا فهم مستمرون بالاستيطان وبشق الطرق وكل قضايا الأمر الواقع. وبعد مؤتمر أنابوليس، تمَّ الإعلان عن 50 ألف وحدة استيطانية في القدس بمفردها، ومن يتابع يرى بأنه في كل يوم هناك بناء وتوسُّع في القدس وأن هناك عشرات الإعلانات بل والمئات من الوحدات الاستيطانية في القدس، وهذا كله لاستكمال الطوق حول الوجود الفلسطيني في القدس وعزل المدينة عن الامتداد العربي الفلسطيني المحيط بها".
وحول استكمال حلقات التهويد يضيف الحموري: "كل إنسان متابع لأمور القدس يلاحظ أن القضايا الرئيسية في التهويد عملياً قد انتهت، واستُكمِلت كل مراحلها، وما بقي هو اللمسات الأخيرة عن طريق بناء حدائق جديدة تحت مسمى حدائق توراتية أو من خلال طريق لربط القدس بشبكة الطرق الأخرى، وكذلك ربط المدينة التي بُنيَت تحت القدس، والتي يمكن أن تُفتَتح في أي وقت وحتى للجمهور، وذلك تم الإعلان عنه قبل أكثر من عام، حيثُ أشار أحد الكُتّاب اليهود إلى ذلك. وحالياً هناك محاولات لربط كل ما هو خارج القدس بهذه المدينة من خلال الأنفاق التي شُيِّدت في سلوان وباب العامود والمناطق الأخرى، واليوم تمَّ الانتهاء تقريباً من هذه الخطوات. وفي الأسبوع الماضي ومن خلال الإعلام تمَّ طرح خطة لأحد المهندسين اليهود يدعو فيها لتحسين السياحة في المدينة القديمة للقدس، كما طرح مشروعاً لإنشاء (التلفريك) ليقطع مساره من حائط البراق وحتى جبل الزيتون، والقطار الخفيف الذي سيدور حول أسوار المدينة المقدَّسة وكذلك حول حارة اليهود والبراق".
ويلفت الحموري إلى الجهود الحثيثة التي يبذلها الجانب الإسرائيلي لكسب الوقت معلِّقاً: "واضح جداً بأنهم يعملون على موضوع القدس ككل الشرقية والغربية، وفي العام الماضي عندما تم التطرُّق لتجميد الاستيطان، تمَّ فصل القدس عن الموضوع وإخراجها من هذه القضية، وتمَّ الحديث عن تجميد الاستيطان في الضفة الغربية فقط. واليوم هناك تمادٍ في هذا الطرح من قِبَل رئيس البلدية وحتى رئيس الوزراء، وكل ما يُطرح هو أن القدس خارج موضوع التفاوض وأنها عاصمة موحَّدة لليهود وليس كما كان يُقال عاصمة لدولة إسرائيل، ونلاحظ تتويجاً لهذه الحملة بمحاولة الاستيلاء على المسجد الأقصى، فهم اليوم من يتحكَّم بمن يدخل ويخرج من المسجد الأقصى من خلال شرطة على جميع أبواب المسجد، وحتى أنَّ حراس المسجد التابعين للأوقاف ممنوعون من الدخول ويشمل المنع مدير المسجد الأقصى، واليوم يبحث اليهود عن شرعية لهم أكثر من ذلك لتعزيز وجودهم في المدينة".
استبدال الذاكرة الإسلامية باليهودية
حول الخطوات المتسلسلة في الإستراتيجية الإسرائيلية لمحو الذاكرة الإسلامية في المدينة وتعزيز كل ما هو يهودي يتابع الحموري قائلا: "للتذكير، فخلال الأعوام السابقة كان هناك مجسَّم للهيكل المزعوم تم نشره في جميع الدوائر الرسمية للدولة العبرية من المطار في اللد وحتى أصغر الدوائر، وهذا المجسم هو بديل للمسجد الأقصى ولقبة الصخرة، والآن يتم توزيع منشورات سياحية على الجميع تُظهِر هذا المجسم عوضاً عن المسجدَين، وحتى أنَّهم في كل خطاباتهم الرسمية لم يعودوا يتحدثون عن المسجد الأقصى، وإنما الحديث كله يتمحور حول مخطط الهيكل، وكذلك الأمر في المراسلات الرسمية سواء أكانت دولية خارجية أم محلية حيثُ تم استبدال كلمة المسجد وصورته بكلمة الهيكل وجبل الهيكل ومجسمه، وفي الكنيست تم طرح قضية السماح للمستوطنين بالصلاة في باحات المسجد وزيادة أعدادهم، وهناك حملة منظَّمة للتعبئة والتحريض تحت عنوان حرية العبادة الدينية للجميع في باحات المسجد، والهدف منها تقسيم الصلاة وتقسيم المسجد الأقصى على غرار ما حدث في المسجد الإبراهيمي في الخليل، والاستباحة اليومية تتم في كل لحظة من قِبَل الجيش والمستوطنين ومن نساء غير محتشمات دون إقامة وزن للمشاعر الإسلامية وللأخلاق ولحرمة الأماكن المقدسة المتعارف عليها عند جميع الأديان. لذا فالوضع جد خطير، ونتوقع في أي لحظة أن يتمَّ الاستيلاء شبه الكامل على المسجد أو حدوث كارثة طبيعية لتكون الخطوة الأولى لبناء الهيكل المزعوم. وكما يعلم الجميع فبين الفينة والأخرى يتم الإعلان عن سقوط شجرة أو حدوث تصدع في جدران المسجد، وكذلك ظهور الحفر في باحاته، وذلك بسبب استمرار الحفريات تحت المسجد الأقصى، فهناك تحضير وتهيئة للاستيلاء الكامل على المدينة المقدسة".
استغلال الأوضاع العربية والدولية
ينوِّه الحموري إلى أن الإسرائيليين لا يتركون فرصة إلا ويتسللون من خلالها للقدس لاستكمال مخططهم، غير آبهين بالعرب والعالم، ويضيف: "التراجع العربي لا يبشِّر بخير. فقرار تعديل المبادرة العربية للسلام الذي اتخذه وفد الجامعة العربية لم يلقَ قبولاً من الإسرائيليين نفسهم، مع أن هناك إمكانيات اقتصادية ضخمة في العالم العربي ناهيك عن الجانب العسكري. فالعالم كله تأزَّم من الناحية الاقتصادية إلا العالم العربي الذي لم يتأثَّر كثيراً بهذه الأزمة، ولو استعمل العرب الضغط الاقتصادي على الغرب وعلى أمريكا فهذا برأيي سيكون كفيلاً بتغيير الأمور وإنقاذ ما تبقَّى من القدس. وهنا أقول وأشدِّد بأنه ليس الأقصى وقبة الصخرة فقط بخطر، وإنما الوجود الفلسطيني في القدس ككل بخطر، لأن اليهود قطعوا مراحل متقدمة في القضاء على الوجود الفلسطيني في القدس، وكذلك فعملية استبدال الفلسطيني بالمستوطن أصبحت لا تخفى على أحد، وواضح جداً أنه خلال فترة بسيطة سيتم تحقيق الخطوة الأخيرة من أهداف اليهود في القدس".
المعاناة والتضحية في القدس وضرورة التحرُّك العربي
ينهي الحموري قوله بأن الفلسطينيين بشكل عام سواء أكانوا في الداخل أم في القدس أم في الضفة يبذلون قُصارى جهدهم للبقاء والصمود، مضيفاً: "نحن نتحدَّث عن 800 ألف سجين من الشعب الفلسطيني داخل المعتقلات الإسرائيلية منذ النكسة وحتى الآن، وهناك عشرات الآلاف من أوامر الهدم للمنازل في القدس وهذا دليل على حجم المعاناة التي يعيشها المقدسي ودليل على حجم التضحية والاستعداد للصمود. وفوق ذلك كله فحوالي 80% من الفلسطينيين في القدس يعيشون تحت خط الفقر، وهذا دليل على حجم المعاناة والتضحية والمأساة التي يعيشها أبناء شعبنا في القدس، لكن قدرة الفلسطيني على التواصل والصمود أصبحت أضعف بكثير من السابق، لذا فهناك حاجة ماسة لتحرُّكٍ عربي إسلامي لإنقاذ القدس فعلياً وعلى الأرض وليس بالإعلان وبالكلام، فالقدس ليست للفلسطينيين فقط، وإنما لكل الأديان، وهرتزل تحدَّث بشكل واضح عندما طلب إزالة كل ما ليس له علاقة بالديانة اليهودية عندما يتم الاستيلاء على القدس وهذا ما تمَّ بالفعل، فالاعتداء يتم اليوم على الجميع، من المسلمين ومن المسيحيين، وقد شاهدنا كيف تمَّ اعتقال سماحة المفتي لعدة ساعات بالأمس القريب، حيثُ تم التحقيق معه، وكذلك تمَّ الاعتداء بالضرب على مجموعة من الرهبان الأقباط وتم إلقاؤهم على الأرض، وهذا خير دليل على أن اليهود لا يحترمون أحداً لا من قريب ولا من بعيد".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها