بُعِثوا من جديد على أرض الشجاعية شرق مدينة غزة، وعلى رحم أرضها ولدوا. شعث يتوشحون التراب بأجسادهم التي أرهقتها الحروب والنكبات، ويرددون دومًا قول الفنان الفلسطيني سميح شقير" إن عشت فعش حراً.. أو مت كالأشجار وقوفاً".
حربٌ استمرت لـ(51 يومًا) قتلت الشجر والحجر والإنسان، إلا أنّ أعمال الفنان إياد صباح المحاضر في كلية الفنون الجميلة بجامعة الأقصى، تؤكد على مقولة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
مجسماتٌ خطّتها أنامل صباح تجسد حكاية أسرة من آلاف العائلات الفلسطينية، نحتها بمادة الـ(فيبر جلاس) وكساها بالتراب والغراء، لتوصل إحساس بشر خرجوا من تراب هذه الأرض.
" أحببت التأكيد على ارتباط الناس بأرضهم وتمسكهم بها رغم تتابع النكبات، وأرصد الحالة بطريقة فنية تدلل على معاناة أهل الشجاعية بعد العدوان على غزة، وتأثيرها بشكل مباشر على حياتهم وحالاتهم النفسية، وبيوتهم". يقول صبّاح متابعًا " رصدت الدمار والمعاناة من خلال إعادة المشهد برؤية نحتية".
شعب مهمش
الطين هو العنصر الأساسي لمجسمات صباح، لتعطي شكلًا لبناء الإنسان، لكنّه ترك بصمة تهميش في ظهر كل لوحة، مع تشققات الطين لتعطي ملامح الدماء والأشلاء التي تدمّرت على اثر الحرب "الإسرائيلية".
وقع الاختيار على أكثر الأحياء تضررًا بسبب القصف، وارتكاب المجازر "الإسرائيلية" وهو حي الشجاعية، وخص منه منطقة "النزاز"، لينصب مجسماته بها، ويترك أنظار المشاهدين تفسر حكاية كل مجسم وما يعانيه.
وحول سؤال الكثيرين لماذا ترك تهميشًا وفراغًا في ظهر كل مجسم يقول صباح " كانت بمثابة طعنة، فهو يدلل على أن الشعب الفلسطيني خدع بكثير من الجهات الدولية كانت تتكلم عن قطاع غزة خلال الحرب، وتحالفوا مع الاحتلال ضد أهلها، وتهميش أقل حقوق الشعب التي يجب أن يساندوه بها".
ولادة الفكرة
وضعت الحرب أوزارها بغزة، وقرر صباح أن يبدأ بأعمالٍ فنية بتمويل وأفكار ذاتية، وبدأ بنحت مجسمات على هيئة انسان، عبارة عن واجهة من الطين، ولكنه من الخلف به جزيئات فارغة ومعدومة الكتلة، لتوصل صورة الغزي.
يقول " بالنسبة لفكرة العمل أحببت أن يكون لها علاقة في بناء الإنسان (..) الجميع يتكلم عن إعمار البنايات، لكنّهم لم يفكروا في العامل النفسي للناس، أحببت التركيز عليه في بعض المجسمات، وأنّ هنالك ضحايا نفسيين.
ويتابع صباح " الحرب لم تكن للشجر أو الحجر فقط، بل الإنسان أيضًا عانى من تدمير نفسي ورعب أطفال، وكثير من الفزع، والتشرد وانعدام الشعور بالأمان، وهذا يسبب مشاكل مستقبليًا".
لم تقف المجسمات على حد مستوى الشجاعية فحسب، بل وضع بعضًا منها على شاطئ البحر، ليحاكي هجرة شبابٍ خرجوا من الحرب إلى الموت في قاع البحار.
اعتبارات وضعها صباح أمام عينه ليوصل رسائل بفنه، الذي تشربه على مراحل تعليمه، ابتداءً من دراسته للبكالوريوس في ليبيا، واستكماله للدراسات العليا بجامعة حلوان في مصر، ومن ثم استكماله للدكتوراة في تونس، معتبرًا أنّ الفن المعاصر له روح في المعارك كما السلاح.
سوابق
أعمال صباح ليست وليدة اليوم، فقد نحت بأصابعه مجسماتٍ تشهد عليها مناطق في قطاع غزة، يتحدث عنها بقوله " بعد انتهاء مرحلة البكالوريوس عام 1998، صنعت مجسم العنقاء في ساحة غزة، ومن بعدها أوكلتني بلدية غزة بصناعة تمثال الجندي المجهول عام 2000".
" أيضًا تواصلت أعمالي، وصولًا لتمثال العودة في ميدان أبو حميد بخانيونس، وتخليدًا لشهداء المقاومة في رفح جنوب القطاع، صنعنا تمثالًا على قاعدة 11 متر في ميدان الـ(17).وفق قوله.
وبدأ صباح بتنفيذ عملٍ جديد، يتبلور في الرد على قصف الاحتلال لدار الكتب العربية بجوار ساحة الكتيبة في غزة، "داخل المبنى هنالك ثقب من أعلاه لآخره، فكرت بعمل مضاد يمثل الروح الثقافي التي يخترق كرد للصاروخ الذي نزل على المبنى".
وعن تمويل مشاريعه، أوضح سبب عدم رغبته في ذلك، مشيرًا إلى أنّ "الممول يفرض شخصه ورأيه وثقافته على العمل، وأنا أحب أن أفرض رأيي، لذا اعمل بجهد شخصي وتمويل ذاتي".
وفي نهاية الحديث قال " الثقافة والفن سلاح نحارب به أعداءنا كما البارود، وجميعنا مطالبون بالتعبير عن بلدنا والدفاع عنها بما نملك".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها