الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
"أرنولد جيزيل" (1880 - 1961) عالم نفس وطبيب أطفال أمريكي، ويُعتبر رائدًا في مجال تنمية الطفل، في كتابه "توجيه النمو العقلي عند الرضع والأطفال" قال: "قد يكون الخوف ميلا أصيلا في الإنسان ولكنه عرضة للتغيّر بسبب النمو الجسمي وبسبب التنظيم الذي يحدثه الاقتران البيئي، إن نوعية الخوف يطرأ عليها تغيّر كنتيجة للنّضج". ووفقًا لهذه الرؤية فالخوف له تعريفاته العلمية وله أنواعه التي تختلف من نوع إلى آخر. ومن التعريفات أنّ الخوف "حافزٌ على الهرب أو الانهزام حتى ولو لم يتحقق سلوك الهرب ظاهريا".
والخوف ليس شيئًا في الطبيعة يتعثّر فيه الإنسان وهو يمشي في دروب الحياة، بل للخوف أسبابه المتعدّدة التي تُوجد خارج الإنسان في كوامنه الداخلية. يرى رائد علم النفس التحليلي "كارل يونغ" (1875 - 1961) أنّ "من بين مسبّبات الخوف الإزعاجات الميكانيكية والأصوات العالية والحركات الفجائية"، كما يرى أن "إثارة الخوف تحدث عندما يعرف الفرد معرفة ناقصة حول مدرك من المدركات قد يكمن فيه الخطر في موقف مُعيّن بحيث لا يفهم ذلك الموقف فهمًا تاما ليسيطر عليه"، ويعبر بأنّ للخوف مصادر كثيرة منها "السقوط المفاجئ غير المُتوقّع في الفراغ والمباغتات والشعور بالخطر".
من جانبه، يرى الطبيب الأمريكي "روبرت جوثري" (1916 - 1995) "إنّ مخاوف الأطفال بين الخامسة والثانية عشرة تنشأ في الأعم الأغلب من قوى ما فوق الطبيعة، ومن الجثث والموت وغرائب الأحداث.. ويُعتبر الحديث عن الحيوانات والظلام من بين أسباب الخوف لدى هؤلاء الأطفال". أما عالم النفس الأمريكي "آرثر تي جيرسيلد" (1902-1994) فيربط الخوف بالظلام لدى الأطفال، يقول: "إنّ تجربة الشعور بالوحدة عند الطفل التي تتركه أقل قابلية للدفاع غالبًا ما تصاحب الظلام".
كما يرى "جيرسيلد" أنّ "نسبة كبيرة بين الأطفال من سنّ الرضاعة حتى السادسة تشعر بالخوف من الحيوانات، وكلما تقدَّم الطفل في العمر خلال سنوات الدراسة الابتدائية قلّ خوفه من الحيوانات المألوفة في بيئته وزاد خوفه من الحيوانات البعيدة عنه مثل الذئاب والغوريلا، وأما بعد مرحلة الدراسة الابتدائية فيكون الأطفال عرضةً للخوف الذي تثيره الأشباح والبعابع والجثث والمخلوقات الخيالية التي تزدحم بها الخرافات".
للمراهقة أنواعها من الخوف أيضًا، ففي هذه المرحلة يخاف المراهق من أن يكون "غير مرغوب فيه من الجنس الآخر. وكلما تقدَّم المراهق في العمر أصبحَت مخاوفه أكثر فأكثر لا حسيّة وأقلّ فأقلّ حسيّة".
أما في مرحلة الرّشد "فإنه ممّا يثير مخاوف الفرد فكرة الحرب أو تهديد أمنه ولياقته، وبالاختصار تهديد بقائه". ويرى العالمان "شتريكر" وآبل" أن "أسباب الخوف هي: الأذى والفقدان والحرمان وتهديد بقائه". ومن أشكال الفقدان، يذكر العالمان: فقدان الصحة أو الحب أو الممتلكات أو الاحترام، ويذكران أهم المخاوف في الحياة اليومية التي تشمل "الخوف من أن يصبح الفرد موضع كراهية، أو موضع سخرية، أو موضع تهانف، أو ألّا يُفهم على حقيقته، أو أن يكون غير مرغوب فيه، أو موضع تندّرٍ، أو أن يُستغل، أو أن تُفرض عليه الأمور فرضا، أو أن يشعر بوحشة الوحدة، أو أن يفقد حبه أو سلطته أو امتيازاته".
وإذًا يمكننا القول بأن لكل مرحلة عمرية في حياة الإنسان مخاوفها المرتبطة بالبيئة المجتمعية والحالة الجسمانية والتعليم والتربية والعادات والتقاليد.. أمّا عن أنواع الخوف فقد ربطها بعض العلماء بالقلق، وصنّفوا ثلاثة أنواع من الخوف هي: القلق الاعتيادي، والقلق العصابي، والمخاوف الدائمة، ولكل نوعٍ مجال دراسته وتفاصيله من الوجهة العلمية.
ما سبق من حديث "علمي" يرتبط بالإنسان السويِّ الذي يعيش حياة طبيعية تتوفّر فيها عناصر الأمن والأمان والتعليم والاستقرار النفسي والاجتماعي. فماذا عن الطفل الفلسطيني مثلا؟ فهو لا يسمع عن البعبع والوحوش المفترسة في الحكايات أو يقرؤها في كتب الأطفال، بل يعيش ما لا تستطيع الحكايات والكُتب تصويره بالكلام والرّسوم عن وحوشٍ آدميّة تستعمل أعتى الأسلحة لتُبيد أهله وتدمّر بيته، وتحاصره فلا يجد حليبًا أو طعامًا أو دواءً! فأيّ معنى للخوف في فلسطين؟ وهل يستوجب الأمر أن يظهر علماء نفسٍ يبدعون علمًا خاصًا يدرس الخوف عند الفلسطينيين، والأطفال على الخصوص؟
من المُجدي أن نتساءل عن الخوف عند إنسان يعيش في خطرٍ دائمٍ ينبت من الأرض ويأتي من الفضاء ويُباغِت من جهة البحر! ومع ذلك يعيش هذا الإنسان صامدًا يعاند الأخطار وهو متشبّثٌ بحقّه في الوجود والاستمرار على أرضه، وكله أملٌ في مستقبلٍ تبتسم فيه الحياة. لو عدنا إلى رؤية العلماء حول الخوف فإننا سنعتبر بأن الفلسطيني منذ مجيئه إلى الدنيا إلى أن يغادرها هو الإنسان الذي قهر الخوف بل هو معجزةٌ إنسانيّة لن يفهمها الغرب ما لم يمنح بعض أطفاله "فرصة" أن يعيشوا سويعة واحدة مع طفل فلسطيني تحت القصف الجهنّمي.. وهو بلا مأوى ولا طعام ولا دواء!
وإذا حاولنا المقارنة بين الخوف عند الفرد في المجتمعات الغربية كما درسه العلماء، والخوف في المجتمع الفلسطيني الذي لم يدرسه أحدٌ حتى اليوم، نُدرك أن الخوف لا معنى له في فلسطين بالمفهوم الغربي، وقدرُ الفلسطيني أن يكون رجلا عميق الإيمان منذ صرخته في عالم الوجود لأن لعبته الأولى لن تكون دبًّا قطنيًّا أو دمية خشبية مثل الطفل الغربي، بل تكون البعبعَ ذاته بأنيابه ومخالبه.. وعليه أن ينتصر عليه بابتسامته الهازئة بكل أعداء الحياة!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها