التعذيب ليس مجرد ممارسة عابرة في فلسطين؛ بل هو أداة منهجية تُستخدم لفرض السيطرة على الشعب الفلسطيني وكسر إرادته. فمنذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، اعتُقل قسرًا ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني، وهو ما يمثل 20% من السكان في الأراضي المحتلة، و40% من الرجال الفلسطينيين.

يتعرض هؤلاء المعتقلون خلال احتجازهم لممارسات تُعد، وفق معايير الأمم المتحدة، أشكالاً مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي.

هذا المقال يُلقي الضوء على تجربة أكثر من عقد في توثيق التعذيب، التي ساهمت في بناء قدرات مهنية فلسطينية لتوثيق الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها. كما يناقش المقال التحديات التي تواجه العاملين في هذا المجال، ويستعرض الدروس المستفادة من هذه الجهود.

تشمل أساليب التعذيب المستخدمة ضد المعتقلين الفلسطينيين الضرب المبرح، الإهمال المتعمد للاحتياجات الجسدية، وحرمانهم من النوم أو الحواس عبر تغطية الرأس والعزل الانفرادي. لكن الأخطر من ذلك هو استخدام تقنيات تُعرف بـ"عدم اللمس"، مثل الشبح وتعليق الأسرى في أوضاع تسبب آلامًا شديدة دون ترك علامات واضحة.

التعذيب لا يقتصر على المعتقل نفسه؛ بل يمتد ليشمل أسرته من خلال التهديد بإيذائهم أو قتلهم، ما يُضاعف من الشعور بالذنب والانهيار النفسي للمعتقل. يُعد هذا جزءًا من استراتيجية منظمة تهدف إلى معاقبة الأفراد وترهيب المجتمع الفلسطيني ككل.

- توثيق التعذيب.. خطوة نحو المحاسبة

تسعى منظمات حقوق الإنسان إلى توثيق التعذيب، ليس فقط لكشف هذه الممارسات، بل أيضًا لضمان محاسبة مرتكبيها أمام المحاكم المحلية والدولية. ولتحقيق هذا الهدف، تم تطوير "بروتوكول إسطنبول" عام 2004، وهو دليل دولي لتوثيق حالات التعذيب.

ومنذ عام 2012، شاركت في تدريبات مكثفة في بروتوكول إسطنبول مع أطباء، وأخصائيين نفسيين، ومحامين فلسطينيين وعالميين. شملت التدريبات مقابلات مع رجال ونساء فلسطينيين تعرضوا للتعذيب، بعضهم لا يزال في السجون الإسرائيلية.

أُجريت هذه المقابلات بفريق مهني ثنائي مكون من طبيب وأخصائي نفسي، وركزت على تحليل العلامات الجسدية والنفسية التي تشير إلى تعرض الضحايا للتعذيب. كما تضمنت التدريبات جلسات إشرافية مكثفة لتحليل التحديات والنتائج، مما ساهم في تحسين فهم آليات التعذيب وتأثيراته على الضحايا.

- ورغم أهمية التوثيق، إلا أن العمل في هذا المجال يواجه العديد من التحديات، أبرزها:

1. بناء الثقة مع الضحية: يتطلب توثيق التعذيب بناء علاقة ثقة مع الضحية، وهو أمر ليس بالسهل، خاصة عندما يكون الضحايا قد فقدوا الثقة بالبشر نتيجة تجربتهم. كما أن الرجال الفلسطينيين غالبًا ما يتحفظون في مشاركة تفاصيل تجاربهم، خاصة أمام  الإناث من المهنيين، بسبب الحساسيات الثقافية المرتبطة بالكرامة والحياء.

2. التعامل مع العواقب النفسية للتعذيب: تؤدي تجارب التعذيب إلى اضطرابات نفسية طويلة الأمد مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، ما يضعف قدرة الضحايا على تذكر الأحداث وروايتها بدقة. كما أن استعادة الذكريات المؤلمة أثناء المقابلات قد تُعيد تفعيل مشاعر الخوف والعار لدى الضحايا، ما يجعل العملية مؤلمة ومجهدة نفسيًا.

3. التوازن بين المهنية والنشاط الحقوقي الإنساني: كثيرًا ما يواجه المهنيون في هذا المجال صعوبة في الفصل بين هويتهم المهنية كأطباء أو محامين، ودورهم كناشطين حقوقيين. يؤدي هذا التداخل أحيانًا إلى عدم وضوح الأدوار، ما قد يؤثر سلبًا على جودة التوثيق.

4. التشكيك في مصداقية الضحايا: أحيانًا، يُظهر الضحايا أعراضًا نفسية مثل الهلوسة أو الأوهام، ما قد يثير شكوك المهنيين بشأن دقة السرد. في حالات أخرى، قد يشعر المهنيون بالقلق من أن الضحايا يشوهون رواياتهم لتحقيق مكاسب ثانوية أو لتجنب عواقب معينة، ما يضيف طبقة من التوتر إلى العلاقة.

- دروس مستفادة وتوصيات

1. تطوير مهارات المهنيين: يتطلب توثيق التعذيب تدريبًا متخصصًا لجميع العاملين في المجال الطبي والنفسي الفلسطيني، لتزويدهم بالمهارات اللازمة للتعامل مع هذه القضايا المعقدة.

2. تعزيز الدعم النفسي للمهنيين: نظرًا للطبيعة الصادمة لهذه المقابلات، من المهم توفير الدعم النفسي والمؤسسات للمهنيين لضمان استمراريتهم في هذا العمل دون أن يتأثروا نفسيًا.

3. أهمية بناء الثقة: يُعد بناء الثقة مع الضحايا أمرًا محوريًا لإنجاح عملية التوثيق. يمكن تحقيق ذلك من خلال خلق بيئة آمنة ومراعاة الحساسيات الثقافية والنفسية للضحايا.

4. إجراء المزيد من البحوث: هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات لفهم تأثير الإذلال كأحد أبعاد التعذيب، وكيفية التعامل معه بشكل فعال أثناء عمليات التوثيق وإعادة التأهيل.

وفي الختام، نذكر أن التعذيب في فلسطين يعتبر قضية تتجاوز الأفراد إلى الصحة العامة والكرامة الإنسانية للمجتمع ككل. وبينما يوفر "بروتوكول إسطنبول" إطارًا دوليًا لمحاسبة مرتكبي هذه الممارسات، فإن تطبيقه على أرض الواقع في السياق الفلسطيني يواجه العديد من العقبات التي تتطلب عملًا جماعيًا من المنظمات الحقوقية والمجتمعية.

ومن خلال تطوير مهارات المهنيين الفلسطينيين وتعزيز أدوات التوثيق، يمكن لهذه الجهود أن تُسهم في تحقيق العدالة للأسرى، وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، التي لطالما وفرت غطاءً لاستمرار هذه الانتهاكات الإسرائيلية.