بقلم: جعفر صدقة
في بلدات وقرى شمال وغرب وجنوب جنين، تجري الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال موسم الزيتون، الذي يوصف في هذه المناطق بـ"الممتاز" وربما تاريخي، وفي مجمل فلسطين بـ"جيد جدًا"، مع توقعات بأن يكون المعدل السنوي "حوالي 20 ألف طن زيت" أو يتجاوزه هذا العام، لكن تدور المخاوف حول إجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين التي تتزايد، والتي تهدد بفقدان حوالي 15% من انتاج الموسم.
هذه الأيام، تبدو الحركة في صباحات هذه البلدات والقرى، أكثر من المعتاد، فمن فاته حراث الأرض في المواعيد المحددة يسارع لإزالة الأعشاب من تحت الأشجار تمهيدًا لعملية القطف، ومن لم يستطع قطف أشجاره لنقص في عدد العاملين في العائلة يسعى لتضمينها، ومن يملك قليلاً من الأشجار، أو لا يملك أصلاً، يبحث عن أرض لضمانها، فيما يبحث آخرون عن مركبات للاستفادة من ارتفاع الطلب على خدمات النقل في هذا الموسم، وآخرون، من أصحاب الدكاكين وغيرهم، يرصدون ما يتيسر لهم من سيولة لجمع الحب من "البعار" أي "من يجمعون ما تبقى من ثمار عن الأشجار التي انتهى أصحابها من قطافها"، وذلك لزيادة مخزون دكاكينهم من المواد الغذائية ومستلزمات الموسم، الذي يشهد عادة زيادة ملحوظة في الاستهلاك.
أصحاب المعاصر هم أيضًا يجتهدون في تجهيز معاصرهم للتشغيل، بعضهم بطرح عطاءات التضمين، وبعضهم بحشد العمالة اللازمة، ناهيك عن العاطلين عن العمل المستبشرين بموسم يوفر لهم فرصًا لإعالة أسرهم، خاصة مع وصول أجرة العامل في هذا الموسم إلى نحو 150 شيقلاً وهي ضعف المعدل العام للأجر اليومي في فلسطين.
باختصار، فإن كثرة المستفيدين، بشكل مباشر أو غير مباشر، تجعل من شجرة الزيتون ثروة قومية أكثر منها ملكية فردية.
- جنين تحدد تقديرات الموسم
محافظة جنين تستحوذ على حوالي ربع انتاج فلسطين من زيت الزيتون سنويًا، بمعدل 5500 طن سنويًا "عام 2019 القياسي بلغ انتاج المحافظة 8 آلاف طن"، ولهذا، فهي التي تحدد تقديرات الانتاج.
ويقول مدير عام مجلس الزيت والزيتون الفلسطيني فياض فياض، وهو خبير الزيتون الأبرز في فلسطين، ومن أبرز الخبراء في هذا القطاع على مستوى العالم العربي: إن "حمل أشجار الزيتون في مناطق شمال وغرب وجنوب جنين، يكاد يكون كاملاً، أما في مناطق شرق المحافظة فهي جيدة، لكنها أقل من باقي المناطق".
كذلك، فإن تقديرات الموسم في محافظة طولكرم وسلفيت "ممتازة" وفق فياض، بينما محافظة نابلس فإن تقديرات حمل الأشجار تتراوح بين 40 و50%، ترتفع النسبة في محافظة رام الله والبيرة إلى ما بين 60 و70%.
أما في الجنوب: القدس، وبيت لحم، والخليل، فإن التقديرات منخفضة، ولا تتجاوز ثلث المعدل السنوي، فيما لا يتوقع أن يتجاوز الانتاج في قطاع غزة 10% من المعدل، أو ربما صفر بسبب تدمير مزارع الزيتون وعدم القدرة على قطف ما تبقى منه بسبب حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على القطاع منذ نحو عام.
بالأرقام، يقول فياض: إن "جنين تتسيد معدل الانتاج السنوي بنحو 5500 طن، تليها طولكرم بمعدل 3500 طن، ثم نابلس ورام الله وسلفيت وقطاع غزة بمعدل 3000 طن لكل منها، وقلقيلية 1500 طن، والخليل 1000 طن، وبيت لحم 600 طن، وأخيرًا القدس بمعدل نحو 200 طن، في حين أن انتاج أريحا من زيت الزيتون يكاد يكون صفرًا".
في عام 2019، سجلت فلسطين انتاجًا قياسيُا من زيت الزيتون بحوالي 40 ألف طن، وفي عام 2022 بلغ الانتاج 36 ألف طن، بينما تتراوح التقديرات لهذا العام بين 18 ألف طن و22 ألفًا.
وقال فياض: "حمل الزيتون في أغلب مناطق جنين، التي تحدد تقديرات الموسم، ممتازة، ونتوقع انتاجًا فوق المعدل، وكذلك في طولكرم وسلفيت، لكن الغياب المتوقع لانتاج غزة، والضعف المتفاوت في باقي المحافظات يخفضان تقديرات الموسم ككل، للتراوح حول المعدل السنوي العام (20 ألف طن)".
ويقول الوكيل المساعد للقطاع الاقتصادي في وزارة الزراعة طارق أبو لبن: إن "الوزارة تتوقع انتاج 81 ألف طن من ثمار الزيتون، منها 8700 طن للتخليل، و72 ألفًا و500 طن للعصر، ويتوقع أن تنتج حوالي 18 ألف طن زيت".
ملاحظتان جديرتان بالاهتمام في موسم الزيتون هذا العام من شأنهما التأثير في الانتاج، الأولى أن إزهار الأشجار بدأ مبكرًا بنهاية شهر شباط، ما يعزّز انتاجية الأشجار وهذا ما يفسر نضج الثمار في وقت أبكر، خلافًا لما حدث في 2022، حيث بدأ الإزهار متأخرًا كثيرًا في بداية شهر أيار، وكان سببًا في مفاجأة كثير من المزارعين بتدني الانتاجية، على الأقل في بداية الموسم.
أما الملاحظة الثانية، فتتمثل بأن حمل الأشجار في الأراضي المتروكة دون حرث أكثر كثافة من الأشجار في الأرض المحروثة.
ويفسر فياض هذه الظاهرة بأن الأعشاب في الأراضي غير المحروثة حمت الأشجار من موجات الحر التي شهدتها فلسطين هذا العام، ما أدى إلى زيادة نسبة العقد في الثمار، فيما كانت الأشجار في الأراضي المحروثة أكثر عرضة للحرارة، وبالتالي كانت نسبة عقد الثمار أقل.
- مخاطر
تاريخيًا، يواجه قطاع الزيتون في فلسطين مخاطر جمة، أبرزها وأكثرها تأثيرًا هجمات المستعمرين وإجراءات الاحتلال التي تحول دون وصول المزارعين إلى أراضيهم لجني محصولهم من ثمار الزيتون.
في العام 2023، حيث تزامن موسم الزيتون مع بدء العدوان على قطاع غزة، لم يتمكن المزارعون من قطف نحو 60 ألف دونم خلف جدار الفصل والتوسع العنصري وفي محيط المستعمرات، شكّلت خسارة بنحو 10% من كامل الانتاج.
ومع تصاعد إجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين، تتوقع وزارة الزراعة عدم تمكن المزارعين من الوصول إلى 80 ألف دونم من المساحة المزروعة بالزيتون، ما قد يترتب عليه فقدان نحو 15% من الانتاج (انتاجية الشجرة خلف جدار الفصل العنصري أصلاً ضعيفة لعدم تمكن أصحابها من خدمتها طوال العام).
ومنذ عام 2012، تضرر، بالقطع أو التكسير، حوالي 278 ألف شجرة زيتون بسبب إجراءات الاحتلال وهجمات المستوطنين، فيما يمنع المزارعون من الوصول إلى مساحات واسعة تقع خلف الجدار وفي محيط المستعمرات، ناهيك عن سرقة المستعمرين للمحصول في مناطق عدة.
وقال أبو لبن: أثر هذه الأعمال والإجراءات على انتاجية قطاع الزيتون يختلف من سنة إلى أخرى، ونتوقع هذا العام أنه على ربع المساحة المزروعة بالزيتون.
- أسعار مرتفعة
في عام 2022، كان آخر الموسم جيدًا، فقد انهارت أسعار زيت الزيتون لتصل في بعض مناطق جنين إلى 16 شيقلاً للكيلوغرام (حوالي 255 شيقلاً للصفيحة سعة 15 كغم)، لترتفع الأسعار إلى مستويات قياسية في 2023 لضعف المحصول، وتتفق كل من وزارة الزراعة ومجلس الزيت والزيتون على أن الأسعار ستبقى عند مستوى مرتفع نسبيا هذا العام رغم وفرة المحصول في البلاد.
ويعزو فياض بقاء أسعار الزيت مرتفعة في فلسطين إلى ارتفاعها عالميا بسبب نقص المعروض، حيث تعاني السوق العالمية من عجز بحوالي 40%.
ويبلغ حجم الانتاج العالمي من زيت الزيتون حوالي 3.5 مليون طن، لكن التقديرات أن الانتاج سينخفض بحدة لدى أكبر الدول المنتجة بسبب الجفاف والتغيرات المناخية.
وقال فياض: "يتوقع أن يكون لدى إسبانيا وإيطاليا واليونان وتونس، وهي من كبار منتجي الزيت، عجزًا بنحو مليون طن، لهذا من المتوقع أن تبقى الأسعار عند مستوى مرتفع هذا العام".
وفي فلسطين، فإن معدل الاستهلاك المحلي حوالي 15 ألف طن، يقل في بعض السنوات إلى 13 ألف طن ويرتفع في بعضها إلى 18 ألف طن تبعًا للأسعار ومدى تناسبها مع القدرة الشرائية للمواطنين، بينما يتم تصدير نحو 500 طن إلى الأردن وما بين 3 و5 آلاف طن لدول الخليج، معظمها هدايا للأقارب وحقوق وأمانات وحصص لأصحاب الأرض من المغتربين، وما بين ألف وألفي طن صادرات تجارية للأسواق العالمية بواسطة شركات، وهي في مجموعها تعادل تقريبًا معدل الانتاج السنوي لفلسطين.
ومع النقص في الأسواق العالمية، قد يكون هناك فرصة أكبر لتصدير الزيت الفلسطيني هذا العام، ما يساعد في بقاء الأسعار عند مستوى مرتفع.
- قطاع واعد
وفق تقديرات وزارة الزراعة، يبلغ عدد اشجار الزيتون في فلسطين حوالي 13.2 مليون شجرة، منها نحو 10 ملايين شجرة مثمرة، ونحو 3 ملايين شجرة لم تصل بعد لمرحلة الانتاج، وتبلغ المساحة الإجمالية للأراضي المزروعة بالزيتون حوالي 935 ألف دونم، ويتم زراعة حوالي 300 ألف شتلة جديدة سنويًا.
فيما يبلغ معدل استهلاك الفرد من زيت الزيتون في فلسطين حوالي 3 لترات فقط (يزيد وينقص تبعا للأسعار).
وقال أبو لبن: "هذا أدنى معدل استهلاك بين الدول المنتجة لزيت الزيتون، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الانتاج بالكاد يغطي الاستهلاك المحلي (وفقًا لهذا المعدل المتدني للاستهلاك)، والتصدير إلى الأردن ودول الخليج والأسواق العالمية (أمانات وتجاري)، نلاحظ أن الطلب على زيت الزيتون الفلسطيني مرتفع، ما يعني أن هناك آفاق كبيرة للتوسع في هذا القطاع".
- تحديات:
إضافة إلى المخاطر الناجمة عن اجراءات الاحتلال وهجمات المستعمرين، يواجه قطاع الزيتون في فلسطين العديد من التحديات، بعضها مرتبط بعملية الانتاج، وبعضها مرتبط بالمعاصر، والبعض الآخر مرتبط بالتسويق وتعامل المستهلكين.
فيما يتعلق بالإنتاج، فإن معدل إنتاجية الأشجار في فلسطين متدنية، وهي الأقل بين الدول المنتجة (وزارة الزراعة تقدّر انتاجية الدونم بنحو 40 كيلوغراما فقط)، ويعزو فياض سبب هذا التدني في الانتاجية إلى طول عمر الأشجار وتركها دون تشبيب (قص الأغصان القديمة القائمة كليا وافساح المجال أمام بروز أغصان جديدة)، إضافة إلى نقص العناية بالأشجار بالتقليم السنوي المعتاد بما يبقي داخلها أكثر عرضة للتهوية والشمس، والتسميد الطبيعي (روث الحيوانات).
أما فيما يتعلق بالمعاصر، قال فياض: إن "الفائض فيها عالٍ جدًا، ويبلغ حوالي 11.6% من الانتاج، وهذا يعود بنسبة 60% لسوء إدارة وتشغيل المعصرة، وبنسبة 40% لقدم غالبية المعاصر في فلسطين".
اما فيما يتعلق بالتسويق، فإن التحدي يتمثل بممارسات سيئة لبعض التجار، حيث يعرضون في أسواق خارجية زيتا من بلدان أخرى أقل جودة، باعتباره زيت فلسطيني، وحتى تسويق زيت قديم (من مواسم سابقة) مخزّن بطريقة خاطئة باعتباره زيت جديد، ما يسيء لسمعة الزيت الفلسطيني.
أما فيما يتعلق بالمستهلكين، فإن التحدي يتمثل بالتخزين السيء، كتخزينه بعبوات بلاستيكية، وتعريضه للشمس والحرارة، وتعبئته بعبوات كبيرة حيث يبقى عرضة للهواء لفترة أطول أثناء الاستخدام، وشراء الزيت من مسوّقين على الطرق بعبوات بلاستيكية شفافة معروضة بالشمس في الشوارع والطرقات.
- فترة ذهبية:
بين عامي 2010 و2017، عاش قطاع الزيتون فترة ذهبية، لدرجة أن المعاومة (تناوب الحمل بين سنة وأخرى) اختفت، وبقي الانتاج عند مستوى مرتفع طوال هذه السنوات.
والسبب في ذلك، بحسب فياض، أن هذا القطاع شهد ثورة بدأت في العام 2005، حيث حظي بدعم كبير من قبل الحكومة والمانحين، على صعيد الإرشادات للمزارعين، والمعاصر، والميكنة، الآفات والأمراض وعبوات التخزين المعدنية غير القابلة للصدأ والأكسدة (ستانلس ستيل)، واستصلاح الأراضي "وكانت ثورة في كل شيء يتعلق بهذا القطاع".
وأضاف: بدأ أثر هذا الدعم والاهتمام بالظهور عام 2010 واستمر حتى 2017، حيث حافظ الانتاج على مستوى مرتفع في كل عام، واختفت المعاومة، لكن هذا انتهى بعد عام 2017 حيث توقف الدعم لهذا القطاع، وعدنا إلى ظاهرة المعاومة، سنة وفيرة (ماسية) وسنة ضعيفة (شلتونية).
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها