قافلة من المثقفين والفنانين التعبيريين بمختلف صنوف الفن التعبيري والتشكيليين والشعراء والروائيين والمؤرخين مضوا في درب الشهادة، تقاطروا في زحمة الموت والإبادة الصهيو أميركية رغمًا عنهم تحت جحيم القنابل والصواريخ من البر والبحر والجو، التي تساقطت فوق رؤوسهم ورؤوس أبناء الشعب في قطاع غزة، بعضهم سقط شهيدًا مع عائلته كما الشاعر المبدع سليم النفار، وبعضهم فارق الحياة لنقص الدواء والعلاج في الوطن كما الفنان التشكيلي فتحي غبن، وبعضهم استشهد كمدًا وجوعًا نتاج الحصار وحرب التجويع كما المؤرخ التاريخي في التراث الوطني الكاتب المتميز سليم المبيض، وآخر استشهد في غياهب السجن ونتاج عدم تقديم العلاج المناسب له، كما الروائي عاصف الرفاعي، وآخر وافاه الاجل وهو واقف على خشبة المسرح يعزف أناشيد الوطن والقدس وفي العاصمة ذاتها، كما الفنان القدير مصطفى الكرد. 
جميعهم وغيرهم من الفنانين المبدعين والكتاب والإعلاميين والروائيين كانوا هدفًا لآلة الموت والجريمة والإبادة الإسرائيلية وبطرق ووسائل مختلفة، ومن أرجاء المحافظات كلها من غزة ورفح جنوبًا إلى القدس العاصمة وإلى أرجاء فلسطين التاريخية.

لأنها (إسرائيل) تخشى من الكلمة وحقائق التاريخ والتعبير وريشة الفنان وقصيدة الشاعر واوتار السيمفونية والمسرح والدبكة والدلعونا والارغول وسنارة التطريز، لأنها تعلم ثقل واهمية المجالات المعرفية والثقافية والفنية والأدبية في التأصيل لحقائق التاريخ والموروث الحضاري الفلسطيني، وتعزيز مكانة ودور الهوية والشخصية الوطنية، وحاملة راية الدفاع وتعميق جذور الرواية الفلسطينية. 
نعم الموت الأسود يخطف الأبصار من هول وفظاعة ووحشية حرب الإبادة الجماعية الأميركية الإسرائيلية في متواليتها الحسابية البسيطة، ومتوالية الموت الهندسية والجبرية اللا معقولة، والخرافية وغير المسبوقة، والتي استهدفت الأطفال والنساء بنسبة تفوق ال70%، إلا أنها أيضًا أعطت أولوية لاغتيال الفنانين والمبدعين والكتاب والإعلاميين بشكل مباشر وغير مباشر لتجفيف تلك الينابيع الإبداعية الوطنية والقومية والإنسانية، الذين شكلوا على مدار تاريخ الصراع الفلسطيني العربي والصهيو أميركي الجبهة الأمامية المتقدمة، وحملوا مشاعل الطريق والنور والحقيقة الساطعة وجالوا بها الدنيا، ونثروا ابداعاتهم وقوافيهم وبلاغتهم وصورهم واستعاراتهم الملهمة لمحطات التاريخ، وفضحوا وعروا أكاذيب واساطير وهلوسات وخرافات الرواية الصهيونية، ونسجوا بريش فنهم الحكاية الفلسطينية العربية، كما يليق بها، وبمكانتها واهليتها التاريخية، واماطوا اللثام عن وجه غلاة الاستعمار والنازية الإسرائيلية، وافلاسهم وسقوطهم التاريخي المدوي بعنصريتهم وغطرستهم وفجورهم اللا أخلاقي واللا قيمي، والخارج عن القانون الإنساني الدولي. 


كل مبدع وفنان ممن ذكرت وغيرهم ممن لم أتمكن من ذكرهم يحتاج لمقالة خاصة، لا بل دراسة كاملة لإيفائه بعض حقه وقيمته وانصافه وتكريمه بما يستحق من معاني الوفاء لتجربته، وعطائه ولإبداعه، ولإسهاماته الغنية. لكن المساحة في زمن حرب الإبادة، ومع تعاظم المجازر والمذابح والمحارق الصهيو أميركية لا تسمح بذلك، خاصة وان جرف الموت الهادر والمرعب وتداعيات حرب الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني تحاصرني، كما تحاصر مطلق كاتب يتابع معطيات التطورات الجارية على الأرض في قطاع غزة والضفة الفلسطينية وعلى رأسها القدس العاصمة. 
لذا أعتذر من الشهداء الأصدقاء والمعارف ومن لم ألتقيهم: الفنان التشكيلي فتحي غبن، والدكتور القدير سليم المبيض، الرئيس الأول لدار الكتب الوطنية، والشاعر المبدع سليم النفار؛ والأسير الروائي الشهيد عاصف الرفاعي، الذي ترشحت روايته لجائزة البوكر العالمية، والفنان المسرحي والموسيقي والمغني المتألق مصطفى الكرد وغيرهم ممن سقط شهيدًا في حرب الإبادة خلال ال147 يومًا الماضية لعدم تمكني من إنصافهم، ولثقتي العالية بأنهم جميعًا حفروا أسماءهم في سجل الخالدين الوطني، وفي قائمة رواد الشهادة والموت المعلن الثقافية، الذين ذادوا عنها بأرواحهم وأبناءهم، وصانوا جبهة الثقافة المتقدمة في الدفاع عن الهوية والشخصية الوطنية. 


رحل أبطال الثقافة والفن والمعرفة والإبداع الأدبي والتاريخي وهم رافعوا رؤوسهم عاليًا، شامخوا الهامة، ومنتصبوا القامة، تعددت أسباب رحيلهم وفقدهم، ولكن الموت غيبهم جميعًا، فترجلوا عن مسرح الحياة، وتركوا الخندق الامامي لثلة جديدة من حملة القلم والريشة والآلة الوترية وصوت الراوي والمسرحي والفنان السينمائي، رغم خسارة الجبهة الثقافية لأدوارهم الهامة والفادحة لوداعهم وانتقالهم للأبدية الخالدة، إلا أن ارثهم باق، وانتاجهم محفوظ، واسهامهم معلوم ورصيدهم لا تمحوه الأعاصير ولا حرب الإبادة، التي إن تمكنت من أخذ اغلبهم بقنابلها وصواريخها وحرب تجويعها، إلا أنهم أحياء بما قدموه من عصارة أفكارهم ووجع أرواحهم وصدى أصواتهم. لهم جميعًا التحية والرحمة والسلام عليهم.