قيضت لي المحبة وأخواتها أن ألتقي سميح القاسم، شاعر فلسطين الفذ، مرات عدة، لعل أهمها تلك التي كانت في عام 1998، حين جاء إلى دمشق بصحبة الأديبين محمد علي طه، وسهيل كيوان، وهما من بلدتي كابول، ومجد الكروم، مثلما هو سميح القاسم من بلدة الرامة في الجليل!

ولأن أدب سميح القاسم وسيرته الذاتية معروفان، فإنني، هنا، وبمناسبة رحيله (آب عام 2014)، سأتحدث عن ليلة جميلة، غنية مدهشة، قضيناها بصحبته، ومن خلالها تجلت روحه الوطنية، فبدا وعيه التاريخي مثل عمود نور، وشعت ذاكرته حتى أتت على تفاصيل التفاصيل التي ستصير حجر الزاوية لروح تعالت يقينيتها مثل قنطرة حنت علينا جميعا.

كنت قد فكرت، وصديقي الأديب د. محمود موعد، باستضافة سميح القاسم ومحمد علي طه وسهيل كيوان في المخيم، في بيت من بيوتنا، لنقيم سهرة تعارف، ولكن سرعان ما حيدنا هذه الفكرة، لأن أيًا منا لا يمتلك بيتا يتسع لمن يودون الحضور، ولأن شيوع خبر وصول سميح القاسم إلى المخيم، سيجمع الخلق سواء أكانوا من الكتاب أو غير الكتاب، قلنا: نأخذه ورفاقه إلى مطعم أو مقهى في مدينة دمشق، ونتقاسم الأكلاف كعادتنا، فقرت هذه الفكرة التي حملناها إلى سميح القاسم ورفاقه، وبقي جزء منها، هو أن نحدد المكان الذي يرغبون في التعرف إليه، وقضاء السهرة فيه، وحين طرحنا الفكرة، قلنا لهم: نذهب إلى الغوطة، أو إلى جبل قاسيون، أو إلى باب توما، أو إلى قلب دمشق القديمة بالقرب من المسجد الأموي، ورحنا نعدد أمامهم مزايا هذه الأمكنة، كان سميح القاسم صامتا، ينقل نظره إلى وجوهنا، وبعد هرجة الاقتراحات، قال: إذا كان لا بد من الأمر فأنا أقترح أن نذهب إلى حي الميدان!

قلنا: الميدان؟ قال: الميدان!

والميدان حي عريق من أحياء مدينة دمشق، يقع خارج سور دمشق من الجهة الجنوبية، وهو محطة لاستقبال غلال حوران الكثيرة، وفيه مستودعات ضخمة للحبوب، ودكاكين لها عراقتها، ومساجد قديمة جدًا، وأبنية ذات طرز شامية مدهشة بطوابقها الثنائية والثلاثية، وباحاتها الواسعة، وشرفاتها المحمولة على أعمدة خشبية ملونة غاية في الرونق والجمال، وأمام عتبات البيوت تحتشد عرائش الياسمين، والمديدة، والعرادلي، واللبلاب.

قلنا مرة ثانية موافقين: الميدان.. الميدان!

ويا للميدان، ويا لأرصفته التي أضاءت بحضور سميح القاسم ورفاقه، ويا لاحتشاد الناس، وتعريش الأسئلة، ويا للفرح الذي عم بوجوده، ويا للسيوف والخناجر والخيول التي حضرت، ويا للغناء الشامي الأصيل الذي حلق مثل طيور القطا قلاداتٍ في سماء تلك الليلة! ذلك لأننا ذهبنا إلى أحد المطاعم الرصيفية التي تعلن عن وجودها حين تغرب الشمس من كل يوم، مقاعد وطاولات وكراسي خشبية، وأطعمة شعبية (فول، حمص، فتات، فلافل، مشاوي، أقراص كبة، فتوش، سلطات، بابا غنوج، متبل، لبن، عصائر..).

كنا في البداية لا نزيد عن عشرين شخصًا، حين اخترنا جانبًا واسعًا من الرصيف الذي امتد مثل لسان بحري بطاولاته ومقاعده وكراسيه الزرق، جلست إلى جوارنا امرأة تلبس ثوبًا طويلاً أسود، وتعصب رأسها بمنديل أسود أيضًا، وقد تربعت مثل أميرة، وراء صاج وسيع له شكل القبة، تخبز عليه الأرغفة القمرية الوسيعة، وقربها قطع العجين، وأكوام عيدان القنب الفضية، سميح القاسم الذي سره جمال المكان وفضاؤه الواسع، انتبه للمرأة الوحيدة فنهض، ومضى إليها، وجالسها، وراح يدفع بأعواد القنب الفضية تحت صاجها الوسيع المرفوع على الأثافي السود الثلاثة، وراح يحدثها ويضحك، والمرأة تحدثه فيضحك وجهها القمري كله، وما لبثنا، حين أطال سميح القاسم جلوسه عندها، أن لحقنا به واحدا واحدًا، حتى شكلنا حلقة وسيعة حول المرأة/الخبازة، ولكم لحظنا أن وجه المرأة راح يومض  ويضيء وهي تستمع لحديث سميح القاسم وغنائه العذب، قال لها: كنت (أوز) تحت النار لأمي، حين كانت تخبز قبل مطلع الفجر، ها أنت تذكريني بأمي، وها أنذا أغني لك أغنيات أمي، حينما كانت تخبز،(على الندى..يا بيضا)!

وفجأة أحاط بنا خلق لم ندرِ من أين جاؤوا، انهم راقصو العراضة الشامية، حملة السيوف والخناجر، دحمونا بخيولهم، وغنائهم الشعبي الجميل، وترحيبهم الفرِح، لقد عرفنا أن أصحاب المطعم عرفوا أن الشاعر الفلسطيني سميح القاسم هو ضيف الميدان في هذه الليلة، فأرادوا أن يكرموه بالترحيب الشعبي، لذلك وقف سميح القاسم وحياهم، وأنشدهم من شعره الجميل، وقال لهم: رصيفكم هذا، أهم من أي صالة مضاءة في العالم يقال فيها الشعر، لقد جئت إليكم، بلا موعد، لأقول لكم: نحن أبناء فلسطين لا ننسى التاريخ، لا ننسى مجيء الشيخ الثائر محمد الأشمر ابن الميدان، ومعه رجاله كي يقاتلوا الإنكليز في الجليل الفلسطيني، جئت إليكم، لأقول لكم، إن لكم نسبا شريفا في فلسطين نحفظه، ولنا نحن أهل فلسطين هنا، في الميدان، نسب شريف، ها أنتم تحفظونه أيضًا، إننا نعتز بهما معا.. ونفتخر! لحظتئذٍ ضج المكان، وضجت القلوب بالفرح.

في تلك الليلة امتلأت طاولات الرصيف الطويل الطويل بالأطعمة والأشربة، ولم يدفع أحد منا ليرة سورية واحدة، بل لم يجرؤ أحد منا على السؤال: ماذا ندفع، ولم نغادر المكان إلا عندما..أشرقت الشمس!