زبغنيو بريجنسكي، مستشار الامن القومي الأميركي الأسبق زمن الرئيس كارتر، هو احد راسمي السياسة الجيواستراتيجية للولايات المتحدة، وترك بصمات مهمة داخل المؤسسة الحاكمة، ومن خارجها. لانه من الشخصيات اللامعة في حقل الاستشراف والابصار لحماية الدور الأميركي المركزي في المنظومة السياسية العالمية. ورغم الفارق بينه وبين هنري كيسنجر، رئيس ذات الجهاز، ووزير خارجية الولايات المتحدة زمن الرئيسين نيكسون وفورد، الا انهما يتمتعان بخصال متقاربة في الدهاء السياسي، وفي رسم مشاريع للهندسة السياسية، واشتقاق مبادئ ومرتكزات الجيواستراتيجيا والجيوبوليتكا للمحافظة على الهيمنة الأميركية في العالم.
بريجنسكي كتب العديد من المؤلفات، من بينها كتابه الهام بعنوان "رقعة الشطرنج الكبرى – الأولوية الأميركية ومتطلباتها الجيواستراتيجية" بالترجمة العربية الصادرة عام ٢٠١٥الذي أتيح لي قراءته مؤخرا، وحرص من خلال فصوله السبعة إدارة لعبة شطرنج على مساحة العالم، وان تركزت لعبته على منطقة الاوراسيا، التي تعتبر من وجهة نظره، وهي صحيحة 100% المنطقة الأهم عالميا من حيث الأهمية في حقول الجغرافيا وتعداد السكان والثروات الاستراتيجية، التي تختزنها، وحجم ودور الأقطاب الإقليمية والدولية المتركزة فيها، ودورها التاريخي والآني في رسم ملامح المشهد العالمي.
انطلق مستشار الامن القومي الأميركي الأسبق بقراءته للتحولات الدراماتيكية من مطلع التسعينيات في القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية، وسعى لاستشراف خارطة التحولات العالمية، ومكانة كل دولة في المنظومة العالمية، وبروز دور الولايات المتحدة في تسيد العالم، والتطورات اللاحقة الحاملة في ثناياها صعود منظومة عالمية جديدة، وحرص بريجنسكي وهو يحرك احجار لعبة الشطرنج، ان يبقي المكانة المركزية بيد الملك الأميركي.
وقبل ان يجول الكاتب الأميركي على كل الأطراف المركزية والفرعية في الاوراسيا، منذ الكلمة الأولى في مقدمته للكتاب الهام، حدد أهمية الاوراسية عالميا، عندما كتب يقول " منذ بدأت القارات بالتفاعل سياسيا قبل حوالي خمسمئة سنة، كانت أوراسيا (يستخدم المؤلف تعبير اوراسيا في الإشارة الى أوروبا وآسيا اللتين تقوم اطروحته على اعتبارهما قارة واحدة) مركز النفوذ العالمي، في أزمنة مختلفة، وبطرق مختلفة اخترقت الشعوب التي تقطن اوراسيا." ولكن هذا المركز العالمي اهتز، ولم يعد ذاته مع انهيار الاتحاد السوفييتي في العقد الأخير من القرن العشرين، وهو ما أكده صاحب الكتاب بالقول "شكل انهزام وانهيار الاتحاد السوفييتي الخطوة الأخيرة في الارتقاء السريع للولايات المتحدة، تلك القوة القادمة من النصف الغربي للعالم لتصبح القوة العالمية الوحيدة والأولى".
ورغم هذا التحول الدراماتيكي في لعبة الشطرنج العالمية، لا يمكن لاميركا ولا لغيرها تجاوز الأهمية الجيوبولتيكية لاوراسيا عالميا، وهو ما عمقه بريجنسكي "الا ان اوراسيا تحتفظ بأهميتها الجيوبولتيكية، ولا يعود السبب في ذلك الى أن طرفها الغربي (أوروبا) مازال موطنا لجزء كبير من القوة الاقتصادية والسياسية، انما يعود أيضا الى ان الطرف الشرقي (آسيا) قد اصبح مؤخرا مركزا حيويا للنمو الاقتصادي والتأثير السياسي الصاعد." ويخلص لتنبيه واشنطن بضرورة إدارة الصراع في اوراسيا للحؤول دون صعود قوة عالمية مسيطرة جديدة، وحماية المكانة الأميركية العالمية من خلال توزيع الأدوار فيما بينها مجتمعة ومنفردة، فيقول " من هنا فإن الكيفية التي ستتعامل بها اميركا المنشغلة بها بشؤون العالم مع مجمل علاقات القوة الاوراسية المركبة – وخصوصا ما اذا كانت ستحول دون ظهور قوة اوراسية مسيطرة ومناهضة لها، تظل مهمة جدا بالنسبة لقدرة اميركا على ممارسة السيادة العالمية" .
شكلت الجمل السابقة الناظم الأساس لبناء فصول الكتاب، فحاول الانتقاص من مكانة روسيا الاتحادية. رغم انه لم يستطع إغفال أهميتها الاستراتيجية، ليس في حقل الأسلحة النووية، وانما من حيث سيطرتها على اكبر مساحة عالميا، ومن امتلاكها للثروات الطبيعية من غاز ونفط وزراعة. الا انه قام بعملية تحريض عليها من خلال تأليب كل من أوكرانيا واذربيجان وتركمانستان وأوزباكستان وغيرها من دول الرابطة، وسعى لتقزيم دورها.
وفي السياق رغم اقراره المبدئي بصعود الصين لمكانة متقدمة عالميا، الا انه حرص على حصر مكانتها الإمبراطورية في النطاق الإقليمي الشرق آسيوي الأقصى، في حين اعطى اليابان حليفة الولايات المتحدة الاستراتيجية المكانة الدولية، مع انه يشير الى ان إمكانيات اليابان الاقتصادية على أهميتها، تبقى محدودة بالقياس للصين الشعبية ولروسيا الاتحادية، ويتحدث باسهاب عن الصراع والتعاون بين اقطاب الدول في جنوب شرق اسيا، ولكنه بانتظام يؤكد، ان على جميع الأقطاب، ان ارادت التعاون الحجيج الى الولايات المتحدة، وهو يقصد كل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية.
وبنفس الطريقة يتحدث عن روسيا الاتحادية ومحاولاتها استعادة الهيمنة على دول الرابطة في اسيا الوسطى وربطها بالدور الاميركي. وحتى في محاكاته لواقع أوروبا الغربية والعلاقات الألمانية الفرنسية، وعن تشكل الاتحاد الأوروبي واهمية التوسع الأوروبي نحو الشرق على المستويين في نطاق الاتحاد وفي اطار حلف الناتو ودوره الدولي.
طبعا لم يترك بلدا من دول اسيا الا وتوقف امامها: الصين والكوريتان واليابان والهند وتركيا وايران وباكستان وأفغانستان واندونيسا وماليزيا والفلبين وفيتنام وتايوان ودول الرابطة الروسية جميعها، وحتى الشرق الأوسط العربي، وكذلك الدول الأوروبية المختلفة والعلاقات البينية المتعارضة بين كل من المانيا وفرنسا من جهة وبريطانيا من جهة أخرى، وبولندا والمجر ودول البلطيق وأوكرانيا، وغيرها، وجميعها حرك حجارتها في اسقاطاته الجيوبولتيكية والجيواستراتيجية، وحرص على إبقاء الملك الأميركي متسيدا، مع ضرورة تنازله نسبيا امام صعود الأقطاب العالمية الجديدة، التي باتت تنافسه في حجم انتاجها في الدخل القومي، وعلاقته بدورها ونسبة اسهامها في حجم المنتوج العالمي، حيث يقر بانخفاض وتراجع المكانة الأميركية على هذا الصعيد، وتقدم الصين النسبي عليها.
بالنتيجة ورغم حرصه على الأهمية الاستراتيجية لدور الولايات المتحدة، يعترف ان العالم آخذ بالتحول تدريجيا نحو عالم متعدد القطبية. ولا يمكنني الا ان اعترف بان الكتاب هام جدا، بغض النظر عن الاختلاف او الاتفاق مع زبغنيو بريجنسكي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها