لم يتح لي لقاء صلاح خلف "أبو اياد" بشكل شخصي مباشر، إلا ثلاث مرات، إثنتان في بيروت، والثالثة في تونس بُعيد الخروج من بيروت عام 1982، اللقاءات الثلاثة، بالإضافة لما كنت أقرأ وأسمع عنه، كانت كافية لتكون لدي فكرة شخصية عن هذا القائد، الذي رحل عنا مبكرًا في لحظة تاريخية صعبة (حرب الخليج عام 1991).

أبو إياد مثله مثل أعضاء الخلية الأولى التي أسست فتح، ومن ثم انطلقت بالثورة، كان له ولهم ارتباط مباشر بفلسطين، ذكريات الطفولة والصبا في المكان، وعاش وعاشوا تجربة نكبة عام 1948 المرة، لذلك كان ارتباطًا حسيًا مباشرًا، تحول إلى حالة درامية في المنفى فيها الحلم الجميل، وفيها الغضب والانتقام من الذين كانوا سببًا بضياع فلسطين وتشريد شعبها، سواء كانوا عدوا مباشرا (الصهيونية والاستعمار العالمي) أو غير مباشر، والمتمثل بتواطؤ بعض الحكام  العرب وتخاذلهم.

أبو إياد كما عرفته كان مسكونًا بالوطنية الفلسطينية وبالأمل بالعودة، كان ثائرًا بسيطًا متواضعًا له أهداف واضحة، تمامًا كما كانت عند ياسر عرفات، وخليل الوزير، وخالد الحسن، ومحمود عباس وهايل عبد الحميد، وغيرهم من القادة الرواد، هذه الأهداف كان يلخصها بكلمتين: التحرير والعودة. لكنه هو وهم تمتعوا بالذكاء والجرأة، وكان يدرك أن الطريق لتحقيق هذا الهدف الواضح، هو طريق وعر جدًا، ومحفوف بالمخاطر التي يصعب تخيلها أحيانًا، لذلك، وعبر الذكاء الفطري والتجربة اكتشف أن السياسة هي فن الممكن، وتحول إلى مناور سياسي من الطراز الأول، وكان هو وياسر عرفات يكمل الواحد منهم الآخر بمنطق الدهاء السياسي.

بهذا المعنى لم يكن أبو إياد رجل أمن غامضًا مختفيًا عن الأنظار،  كما هي الصورة النمطية عن رجال الأمن، لقد كان سياسيًا جماهيريًا، لكن الجانب الأمني منه كان يعمل فيه بهدوء وبرود أعصاب ينظم ويبني الشبكات على امتداد العالم. وخلال فترة وجيزة نسبيًا تحول إلى رقم أمني إقليمي ودولي مهم، كانت أكبر وأهم أجهزة مخابرات العالم تحسب له الحساب وتعمل بكل السبل لصياغة علاقة تعاون مع جهاز الأمن الموحد الذي كان يقوده، وهو جهاز أمن الثورة، جهاز أمن منظمة التحرير الفلسطينية.

وما ميز أبو إياد هو امتلاكه لشبكة علاقات داخلية، مع التنظيمات والشخصيات الفلسطينية، وعلاقات مع حركات تحرر وقادتها، ومع زعماء دول عربية وعالمية، وكان الهدف هو خدمة مصالح الثورة والشعب الفلسطيني. هذه الميزة جعلت منه رجل المهمات الصعبة التي تحتاج إلى إعادة علاقات مع زعماء عرب كان أبو عمار قد فقد حلقة التواصل معهم.

أبو إياد، الرجل الدافئ المتواضع في علاقاته مع أبناء شعبه، كان العدو الإسرائيلي ينظر إليه كالرجل الأخطر في الثورة في حقبة السبعينيات، وبالتالي المطلوب رقم واحد، من هنا نجا أبو إياد من العديد من محاولات الاغتيال. خطورة هذا القائد لم تكن فقط لدوره الأمني وفي قيادة العمليات الخاصة الأكثر تعقيدا، بل لدوره السياسي، سواء لدوره داخل الثورة باعتباره أحد القادة المقررين فيها، أو لكونه من المنظرين مبكرًا للواقعية السياسية، ومحصارة العدو وعزله في الساحة الدولية من خلال العمل السياسي الذكي، فالقضية الفلسطينية قضية معقدة والمواجهة مع هذا العدو هي مواجهة شاملة ولا تتم بالسلاح وحده.

لقد أتقن هذا القائد فن اتخاذ المواقف، كان يعرف جيدًا متى يكون ثوريًا متطرفًا، ومتى يصبح معتدلًا ناعم الكلام، لكنه بين هذا وذاك كان يحدد بدقة الأولويات في كل مرحلة، ويعلم أن هناك عوامل حاسمة لتحقيق النصر، وهي من وجهة نظره أن يحافظ الشعب الفلسطيني على وحدته،  يدرك بوعي هويته الوطنية. وأن يكون حر الإرادة، فالثورة بالنسبة له هي إرادة شعب يريد الحرية.