تقرير:  رشا حرز الله

على غير العادة، لم تستقبل عائلات وأصدقاء ثلاثة أسرى لحظة الإفراج عنهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، بموكب بهيج يغمره الفرح وتزينه الأعلام.

وحده ضابط الإسعاف في مركز إسعاف الهلال الأحمر بمدينة جنين خالد الأحمد فعل، كانت بانتظارهم عند حاجز سالم العسكري غرب مدينة جنين، حفاظا على سلامتهم وحماية لذويهم وعائلاتهم، من انتشار فيروس "كورونا" المستجد.

يوم الجمعة المنصرم، الثالث من نيسان/ ابريل، ورد اتصال هاتفي للأحمد، من مسؤول الطب الوقائي في المدينة، يبلغه بضرورة التوجه لحاجز الجلمة العسكري، لاحضار ثلاثة أسرى محررين أفرج عنهم من سجون الاحتلال.

على الفور توجه الأحمد إلى المكان، لكن كان الاحتلال قد غير مسار الإفراج عنهم من حاجز الجلمة إلى حاجز سالم، فعاد أدراجه ليجدهم بانتظاره هناك.

ترجل الأحمد (45 عاما) من سيارة الإسعاف، ووقف أمامهم على "مسافة أمان"، وأدى لهم التحية مُرحبا بهم بكلمات لطيفة "نورتو فلسطين، نورتو بلادكم، أهلا وسهلا فيكم" ثم فتح لهم باب الإسعاف ليصعدوا إليها، وهو يسدي لهم النصائح "حاولوا الجلوس بعيدا عن بعضكم، وما تريدونه أنا حاضر، كان نفسي أضمكم "أحتضنكم".

صعد الأسرى للإسعاف، واستجمع الأحمد قواه ليغلق الباب عليهم، وقبل أن يفعل قال لهم بخجل: "والله إنها صعبة علي شوي أسكر الباب عليكم، بس تحملوني، أنا والله نفسي أحضنكم وإن شاء الله بتخلص الأزمة ونحتضن بعض بصحة وسلامة".

لحظات الإفراج هذه عادت بذاكرة الأحمد إلى عام 1995، حين كان معتقلا لدى الاحتلال في سجن "الفارعة" في ذلك الوقت، وأمضى مدة محكوميته البالغة عاما، فشعر بكثير من الأسى.

"شعور باستياء كبير لأنني أعرف معنى أن تكون أسيرا ويغلق عليك الباب، وتنتظر سنوات طوال قبل أن يفتح، أنا أكره الأبواب المغلقة، وأعلم أنهم مشتاقون لعائلاتهم، وأن عائلاتهم تنتظرهم أيضا بفارغ الصبر لتفرح بهم، لكن ما حدث كان للحفاظ على سلامتهم"، يقول الاحمد.

لحظات إقفال الباب على الأسرى كانت من أصعب ما مر به الأحمد، رغم أنه يقفله يوميا على مئات الحالات، "أحسست بأنني عائق أمام فرحة عائلاتهم، لكنني مجبر على ذلك من أجل سلامتهم".

اصطحب الأحمد الأسرى المحررين الثلاثة إلى المركز الطبي، وأجريت لهم هناك فحوصات مخبرية، للتأكد من عدم إصابتهم بفيروس "كورونا" المستجد، خاصة أن سلطات الاحتلال لا تكترث بصحة الأسرى، ولا تقوم بعمل أي إجراءات احترازية أو وقائية لحمايتهم من هذا الوباء، رغم أن العديد من المحققين والسجانين مصابون بالفيروس.

ويؤكد الأحمد أن الأسرى الثلاثة تحلوا بأعلى درجات المسؤولية، ولم يعترضوا على أي إجراء قمنا به، أعطيناهم الإرشادات اللازمة حول الفيروس، وكيفية التصرف حال شعور أحدهم بأية أعراض، فهم ضحوا بأعمارهم من أجل حماية البلد، والآن يتحملون المسؤولية بكل شجاعة من أجل البلد أيضا.

لم يخف الأحمد شعوره بالخوف عندما أخذت عينات الأسرى الثلاثة، وبقي طوال الليل على تواصل مع الطواقم الطبية، حتى ظهرت نتائجها، والتي أثبتت عدم إصابتهم بفيروس "كورونا" حينها فقط شعر بالراحة.

وكان المتحدث باسم الحكومة إبراهيم ملحم، أعلن يوم الأربعاء المنصرم، عن إصابة أسير محرر (19 عاما) من بلدة بيتونيا غرب رام الله، بفيروس كورونا، بعد أن قضى فترة اعتقاله في قسم 14 في عوفر ومركز تحقيق بنيامين.

وحمل حكومة الاحتلال الإسرائيلي وإدارة السجون المسؤولية كاملة عن هذه الجريمة الطبية واللاأخلاقية واللاإنسانية، والمتمثلة بعدم حماية الأسرى الفلسطينيين من خطر انتشار هذا الفيروس، وعدم اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة.

ربما يكون هذا الموقف الأقسى على الأحمد (أب لخمسة أطفال)، لكنه ليس الوحيد، وفي ذلك يذكر أن أحد المواطنين تحت الحجر المنزلي في بلدة كفر راعي جنوب المدينة، عانى من ارتفاع بدرجات الحرارة وألم في الأسنان، فتوجهه إليه، وكانت والدته المسنة تنتظره عند الباب، وهي بحالة نفسية صعبة لشدة خوفها على ابنها.

"أبقيتها بمسافة بعيدة عني، ومدت لي بفنجان قهوة، وقالت اشرب يما فرفضته مكرها، لأني لا أستطيع أن اختلط بها، وأن أتسبب لها بأذى لا قدر الله، وحفاظا على سلامتها"، يقول الأحمد.

وجدت الأم في الرفض ذريعة للبكاء بشكل أشد، لكن الأحمد بقي معها "يطيب خاطرها" ويهدئ من روعها، ووعدها عند انتهاء الفيروس، بأن يأتي إليها ويحتسي معها فنجانا آخر.

هذه المواقف صعبة، لكن في المقابل تحدث عن أخرى مضحكة تنم عن بساطة الناس، ومنها ما حصل في إحدى قرى جنين، حيث أبلغ بالتوجه إلى منزل أحد المواطنين، لوجود حالة إغماء، كانت لوالد صاحب المنزل، وهو رجل مسن، وبدأ الطاقم بإعطائه العلاج. ويقول الأحمد "عندما فتح عينيه وشاهدنا باللباس الأبيض "الوقائي" ظن بأننا "ملائكة الموت"، ولما وجد أولاده إلى جانبنا ضحك وسألنا "انا لسه ما طلعت فوق؟".

وفي موقف آخر، "أحد المواطنين يعاني من ارتفاع في الحرارة، ذهبنا لمعاينته كانت منتصف الليل، ولما شاهدنا بالزي الأبيض، خاف وقفز من أعلى سور المنزل، وعندما أقنعناه بالعودة سألته لما فعلت ذلك قال "خفت منكم". وبعدها تقبلنا وسارت الأمور على ما يرام.

بعد انتهاء عمله، يعود الأحمد إلى غرفته التي خصصتها له جمعية الهلال الأحمر، فهو منذ بداية آذار/ مارس المنصرم، لم يذهب لمنزله، ولم يلتق عائلته، وأطفاله، ويكتفي فقط بمشاهدتهم عبر نافذة المنزل، ويرسل لهم احتياجاتهم من بعيد.

يقول: "انه أمر صعب، لكن لا أستطيع العودة إلى منزلي حاليا، لأننا نعيش ضغطا في العمل، ولأنه لا أمان الآن من الاختلاط معهم، وقد أتسبب لهم بعدوى بطريقة ما لا سمح الله، وما أقوم به الآن أهم من كل شيء، فكما أتعامل مع اطفالي أتعامل مع الناس والعكس صحيح".

فكرة انتقال عدوى فيروس "كورونا" تراود ضابط الإسعاف خالد الأحمد بشكل دائم، لكنه يؤكد بصلابة: "بحمد الله للآن نعمل براحة نفسية ومعنويات عالية، وكل ما نريده أن يبقى الناس في منازلهم لأن حياتهم غالية".