تقولُ الأسطورةُ اليونانيّةُ أنَّ الفتى الوسيمَ "نرجِس" كان مُولعًا بنفسِهِ لدرجةِ أنّهُ كانَ يقضي وقتَهَ محدّقًا في صورتِهِ التي تعكِسُها مياهُ بحيرةٍ أدمَنَ على الجلوسِ على شاطئها، وعندما ماتَ بكَتْهُ البحيرةُ فسألتْها إحدى الحوريّاتِ: لمَ تبكينَهُ؟ ردّت البحيرةُ: أنا لا أبكي حزنًا عليهِ ولكنّني أبكي لأنّني كلّما كان ينحني فوقَ صفحةِ مائي كنتُ أرى صورتي في عَيْنَيهِ!

هذه صورةٌ رسَمَها عالَمُ الأسطورةِ اليونانيّةِ ولخّصَ فيها حالةَ الإعجابِ بالذّاتِ إلى حدِّ العشقِ والعمى، وما زال نرجسُ والبحيرةُ يمثّلان تجسيدًا لهذا المرضِ الذي أصبحَ ملازِمًا لعصرِ سيطرةِ الإعلامِ وقدرتِهِ على إقناعِ أيِّ قِردٍ بأنّهُ مَلِكُ جمالِ الغُزلانِ. هكذا تجري عمليةُ صناعةِ الأصنامِ التي تصرُّ على عبادةِ ذاتِها وتطلبُ من الآخرينَ مشاركتَها في هذهِ العبادةِ، ثمَّ تتّسعُ دائرةُ المنافقينَ من أتباعِ الديانةِ الجديدةِ ويصبحُ الانتماءُ لها مقياسَ العقلانيّةِ والوطنيّةِ، بينما يوصمُ كلُّ من يخالفُها الرّأيَ بالكُفرِ والزّندقةِ والخروجِ على الأمّة.

 

الانشغالُ بالذّاتِ لتصويبِ أخطائها وتصليبِ مناعتِها عملٌ حثَّ عليهِ الحُكماءُ والأنبياءُ والعقلاءُ، وفي قولهِ تعالى "وفي أنفُسِكمْ أفلا تُبصِرون" دعوةٌ لأنْ يكونَ الاهتمامُ بالذّاتِ أولى دوائرِ البحثِ والعملِ الدّؤوبِ لإغناءِ تجربةِ الأفرادِ والجماعاتِ والأممِ، وفي هذا تجسيدٌ لمبدأ التّقييمِ المستمّرِ للتجربةِ وتجاوُزِ ما تراكمَ خلالَها من أخطاء. هكذا نفهمُ الاهتمامَ بالنّفسِ واعتبارَ ذلكَ شرطًا للإبصارِ، فمن يعجزُ عن رؤيةِ ذاتِهِ وما فيها من أخطاءٍ لا يمكنُ أنْ تكونَ لهُ قدرةٌ على رؤيةِ ما هو أبعدُ منها، اللّهمَ إلّا إذا تظاهرَ بالعمى كلّما نظرَ إلى نفسِهِ، بينما نراهُ مُبصرًا كلّما تعلّقَ الأمرُ بهفواتِ غيرِه. 

 

يتجنّبُ بعضُ الضّعفاءِ النّظرَ إلى ذاتِهم نظرةَ الناقدِ ويرسمونَ صورةً وهميةً لأنفسِهم تبدأُ بالتغاضي عن الأخطاءِ وتنتهي بالوصولِ إلى قناعةٍ أنَّهم أصبحوا مركزَ اهتمامِ الكَونِ وشرْطَ استمرارِ منظومةِ الحياةِ. هذه العقليّةُ هي الخطرُ الأكبرُ الذي يهدّدُ أيَّ مشروعٍ جماعيٍّ مهما كان هدفُهُ، فلا سبيلَ للتطّورِ والإنجازِ في ظلِّ عبادةِ أصنامِ الأنانيّةِ والتقوقعِ في صومعةِ الإعجابِ بالذّاتِ، وليسَ هناكَ حصانةٌ من الخطأ لعبيدِ الله مهما علَتْ مناصبُهم. هذا هو المدخلُ لترسيخِ القناعةِ بأنَّ الوطنَ لا يرتبطُ بوجودِ شخصٍ أو بغيابهِ. علمًا بأنَّ للوطنِ وللشّعبِ ذاكرةً تَتّسعُ لتشملَ كلَّ المخلصينَ وتعطيهم حقّهم عبرَ تخليدِهم، ومن كان لديهِ شكٌّ في هذه الحتميّةِ فلينْظُرْ كيفَ يخلّدُ الوطنُ والشّعبُ ذكرى أبو عمارَ، مع الإصرارِ على أنَّ تخليدَ ذكرى قائدِنا تعني بالضّرورةِ الاستمرارَ على خطاهُ حتى تحقيقِ حلمِهِ الذي قضى من أجلِه. هذه الحقيقةُ يجبُ أن تبقى حاضرةً في أذهانِنا جميعًا ونحنُ نستعدُّ لخوضِ استحقاقِ الانتخاباتِ، فلا مكانَ بيننا لمن يظنّونَ أنَّ وجودَهَم في مناصبِهم شرطُ سلامةِ الوطنِ، لأنَّ سلامتَهُ قد تكونُ أحيانًا مرتبطةً برحيلِهم، وفي المقابلِ لا مكانَ أيضًا لعقليةِ إقصاءِ الآخرِ وكأنَّ الخللَ لا يكمنُ سوى في هذا "الآخرِ" وسيذلّلُ رحيلُهُ كلَّ الصّعابِ التي تعترضُ مسيرتَنا.

 

*النرجسيّةُ لا تليقُ بالمناضِلِ المؤمنِ بأنَّ الوطنَ كنزٌ للخبراتِ والخَيْراتِ لا ينضَبُ، ومن يعشقُ نفسَهُ لدرجةِ التنكُّرِ لكلِّ ما حولَهُ فهو بالضّرورةِ لا يستحقُّ ثقةَ الشّعبِ ولا احترامَهُ أو تقديرَهُ.

 

٨-١١-٢٠١٩

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان