خاص مجلة "القدس" العدد 328 تموز 2016/ بقلم: خالد أبوعدنان
أورد العديد من المفكرين مصطلح الحب السياسي في كتاباتهم ونقلوا من التراث العالمي العديد من المقولات التي تؤكد أن الحب السياسي منطق فكري مهم وله جذور ضاربة في فن حكم الشعوب، وبالتأكيد أن الحب له معادلة نقيضة تنقسم بين الخصومة والعداوة.
وقبل أن نشرح مفهوم الحب السياسي لابد أن نحلل المنطلق الفلسفي العربي أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً ما‏، الذي ورد في تراثنا العربي في عدة روايات له في السياسة أكثر من الكياسة الاجتماعية، والذي تناقلته الألسن حتى بات من أمثال العرب الدارجة والسائرة في العموم والخصوص، بل إن المعنى الفلسفي له تجاوز التركيب النصي فورد بأشكال متعددة وصيغ متنوعة نذكر منها:  
الأولى: أخبرنا أبو أحمد عن الجوهري عن عمرو بن فلان وعن عبد الله ابن عمرو عن زيد بن أنيسة عن محمد بن عبيد الله الأنصاري عن أبيه قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول مراراً اللهم إني أبرأ إليك من قتلة عثمان وإني أرجو أن يصيبني وعثمان قول الله (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ إخواننا على سرر متقابلين) قال ورأيت عليا في داره يوم أصيب عثمان فقال ما وراءك قلت شر قتل عثمان فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما).
الثانية: قال الإمام أبو عيسى محمد بن سؤرة الترمذي: حدثنا أبو كريب، حدثنا سُويدُ بن عمرو الكلبي عن حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أراه رفعه قال: "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هونا ما ، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما". قال أبو عيسى "رحمه الله": هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه. وقد روي هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا، رواه الحسن بن أبي جعفر وهو حديث ضعيف أيضاً بإسناد له عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح هذا عن علي موقوف عليه رغم أن الألباني صححه بإسناد أبوهريرة.   
الثالثة: للشاعر النمر بن تولب (وأحبب حبيبك حبا رويدا ** لئلا يعولك أن تصرما ) ( وأبغض بغيضك بغضا رويدا ** إذا أنت حاولت أن تحكما)، وهو أقدم ذكر لهذه المقولة قبل الإسلام بثلاثين عاماً.
الرابعة: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما)، في رواية أخرى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :(لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً)، فقلت: كيف ذاك؟ قال:(إذا أحببت كَلِفْتَ كلـف الصبي، وإذا أبَغضت أحببَتَ لصاحبك التِّلف).
الخامسة: للشاعر هدبة بن خشرم (وأبْغِـضْ إذا أَبْغَضْتَ بغضــاً مقـارباً فإنك لا تدري متى أنت راجعُ)(وكن معدناً للخير واصفح عن الأذى فإنك راءٍ ما عمــلت وسـامع)(وأحــبب إذا أحبـــبت حبـاً مقــارباً فإنك لا تدري متى أنت نازعُ).
السادسة: قال الحسن البصري "رحمه الله": (أحبوا هوناً وأبغضوا هوناً فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا).  
السابعة: قال محمد بن الحنفية:(ليس بحكيم من لا يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُداً؛ حتى يجعل الله له فرجاً أو مخرجاً).
الثامنة: قال المعري: (خف من تود كما تخاف معادياً - وتمار فيمن ليس فيه تمار)(فالرزء يبعثه القريب وما درى- مضر بما تجنى يدا أنمار).
التاسعة: قال أبو العتاهية:(ليخلُ امرؤ دون الثقات بنفسه - فما كل موثوق به ناصح الحب).
العاشرة: أبو الأسود الدؤلي: (أحبب اذا أحببت حبّا مقاربا ** فانّك لا تدري متى أنت نازع)( وابغض اذا أبغضت غير مباعد ** فانّك لا تدري متى أنت راجع).
الحادية عشر: أن معاوية لما ألحق زيادا به و ولاّه البصرة بعد أن كان واليها من قبل أمير المؤمنين عليه السلام صعد المنبر وقال: قد رحلت عنكم وأنا أعرف صديقي من عدوّي ثم قدمت عليكم وقد صار العدوّ صديقا مناصحا والصديق عدوّا مكاشحا، فليشتمل كلّ امرى‏ء على ما في صدره ولا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه، وليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه انّي قد حملت سيفي بيدي فان أشهره لم أغمده ثم نزل، ثم قال: (أحبب حبيبك هوناً ما ** عسى أن يكون بغيضك يوما ما ** وأبغض بغيضك هوناً ما **عسى أن يكون حبيبك يوما ما).
تظهر البنية الفلسفية عميقة المغزى في المساحة بين الحب والخصومة والعداوة، وتكون ظاهرة واضحة سرعان ما تتأثر بالمحيط المكاني للأحداث وتتغير وفق معادلة: أن الفكر البشري عامل متغير يتحرك في مجال الواقع بخبرة الماضي وطموحات المستقبل. واختصرها ديكارت باستنتاجه فقال: الانسان إن لم يكن مجنوناً يمكن له أن يكون مجنوناً إذا أراد أن يكون ذلك، فلا حدود للحب أو الكراهية، قد يكره الإنسان ثم يحب ثم يكره ثانية، وهذه المشاعر قد تطال المنطقي مثل العدو النقيض، ولكنها قد تصل  اللا منطقي بكره الذات وتعذيبها.
ففي الفكر السياسي لا يكون الحب حسياً ملموساً بل هو ذهني منطقي يتلخص بالهدف السياسي، يسمى بروابط المصلحة عند الرأسماليين، بينما ينعتها اليساريون بقواعد الإيمان الحزبي، وهي عند الدينيين عقيدة الشريعة أو قانون الطائفة الناجية، أما الثوريون فهو الحب السياسي، وهو يختلف عن كل المفاهيم السياسية الحزبية، لأن له روح التجمهر الشعبي وهدفاً مركزية يستند على قاعدة تغيير الواقع وإحلال الحب، فالحب في الثورة يعني السلام والنصر وكل فعل ثوري ينبع من حب الوطن والجماهير والقيادة الثورية، بل أن الحب الثوري بطموحه الجامح يسعى لتغيير تفكير العدو ودفعه لقبول مفهوم الحب الثوري في إطار السلام والتعايش ونبذ الكراهية.  
فالحب أعلى مرتبة من التسامح وأكثر إلحاحا من المصلحة وأوسع مجالاً من الإيمان الحزبي وأعمق من عقيدة الشريعة، لأنه ببساطة فكرة تجمع كل ذلك في بوتقة الحلم البشري بالسلام الدائم، وقد يكون شوبنهار أول من لاحظ أن: الحيوانات ذات الأشواك تتخلّى عن التراص بعضها  بعض لمقاومة البرد، وذلك لأن أشواكها تجرحها، لكنها تضطر لمعاودة الاقتراب بعضها من بعض في أوقات الجليد، وينتهي بها الأمر لإيجاد المسافة المناسبة بينها بعد التجاذب بين الميل والنفور، بين الصداقة والخصومة والعدواة. فالقاعدة العامة للجنس البشري هو التجمع مهما كانت درجات الاختلاف والتناقضات، وهذه القاعدة تتناسب مع التركيب النفسي للبشر مما يجعل الفكر الثوري أكثر الأفكار تقبلا للانتشار على مدار الزمان والمكان، لأنه يطرح الحب للجميع وأن حق الحياة مكفول لكل الفرقاء.
وإذا تعمقنا بالفكر الإنساني المفرد المجرد من الميراث الفكري التراكمي للبشرية، فهو لا يرقى لحل مشكلاته مهما كانت حياته بدائية وبسيطة، فتبادل الخبرات بين البشر هو القاعدة الأساس لما يسمى بالقيمة المجتمعية وفق نظرية المجتمع لأرسطو، والتي أضاف إليها ابن رشد التفكيك في تبادل الخبرات وقسمها جزأين، فاسد يفكك الروابط الاجتماعية ويجعله خليطاً متناحراً غير متجانس، ونوع آخر هو النمو الحضاري الذي يمتّن الروابط الاجتماعية لدرجة توحيد السلوك المجتمعي تجاه قضاياه الكبرى مثل الحكم السياسي والعرف الاجتماعي والمعتقد الديني. إن ما أضافه ابن رشد يعد السند الأقدم لمفهوم الفكر السياسي الاجتماعي وأتباعه الرشديين الأوروبيين الذين يعدّون أول من كتب عن أهمية تبادل الأفكار بين أفراد المجتمع قبل التفكير بتشكيل حزب سياسي، رافضين المدرسة التقليدية التي اعتمدت على فكر الصفوة المخملية في المجتمع وفرضه على الطبقات الأدنى كما كان في الديموقراطية البريطانية الفيكتورية.
إن هذا الفهم لتبادل الخبرات بين أفراد المجتمع يجعل مسؤولية النمو الحضاري على عاتق كل الطبقات الاجتماعية، فالتبادل للخبرات أعمق من التبادل السلعي، لأن نقل الخبرات يتطلب الحوار والنقاش، ثم تقويم الفكرة القديمة وطرح خيارات مستقبلية وأيضاً يفسح المجال للإبداعات الجديدة وكل هذه الفعاليات بحاجة لحد أدنى من الحب المتبادل بين أفراد المجتمع، أما إذا كان تبادل الخبرات فاسداً، فهذا يعني أن هناك أزمة حوار بين أفراد المجتمع أو أن هناك طبقة مستبدة تفرض كل شيء على باقي الطبقات، أو أن هناك مشكلة في تحديد حدود المجتمع فهو متداخل مع مجتمعات أخرى بدوائر الانتماء العرقي والولاء الديني والتبعية الاقتصادية، وهذا كله يشتت المجتمع ويزرع فيه بذور الخصومة التي ممكن أن تصل لحد العداوة. ومن جانب آخر تكون دائرة النفوذ السلطوي ضاغطة بشكل مستمر على كافة مكونات المجتمع، ويكون هدفها الأساسي إيجابي وهو توحيد المجتمع تحت قيادة واحدة، أما سلبياتها فهي ليست من ذوي النفوذ السلطوي فحسب، بل من الطبقة المحظية لديهم والتي تسمى الطبقة المتنفذة في كافة نشاطات المجتمع فهي التي تحظى بالرعاية والاهتمام من الحاكم وأعوانه.
وهذا الركن الأساسي من فلسفة أحبب حبيبك هوناً ما، فالمغلاة بالحب السياسي خطر مدمر للثوريين ولكل من يحاول تقديس شريعة المجتمع، لأنها تتكون من عدة عوامل متغيرة فلا يمكن أن تكون ثابتة وتقديسها هو نوع من الجمود الفكري والتحجر العلائقي في عملية تبادل الأفكار داخل مجتمع الثورة. وقد استنتج كارل ماركس: أن الوارث للفكر التنظيمي ليس المطلوب منه أن يرث كل التراث الفكري للتنظيم، فهو أكثر من مجرد ناقل جامد لأفكار الرعيل المؤسس، بل عليه أن ينتقي ما يناسب عصره بما يتوافق مع روح الفكرة العامة للتنظيم ولا يخرج من دائرة الهدف الرئيس لتأسيس التنظيم حتى بقرارته المرحلية التكتيكية.
وفي قصيدة الفلاح الفرعوني الثائر خون أنوب سجّل اعتراضه على الحاكم الجديد فقال: (إن كبار الموظفين يأتون السيئات... إن الذي ينبغي أن يستأصل الشرور... إنما يرتكب نفسه المظالم... لقد وليت لتقضي فيما بين الناس الخصام... ولتعاقب المجرم... وما أراك تفعل شيئاً... وقد أولاك الناس ثقتهم... فملت في الحكم كل الميل... لقد وليت، أمر الناس... لتكون حصناً للبائسين... فحذار...أن يغرق البائس... في مائك الجارف... إن الذي يجب أن يحكم... تبعاً للقانون... هو الذي يأمر بالسرقة... فمن الذي سيعاقب الخسة... إن من يجب عليه إزالة الفساد...هو المراوغ... لقد أصبح الرجل مستقيماً وهو أعرج)
وإن كان هذا الاستنتاج يخص القواعد التنظيمية التي ترفض أي تجديد فكري بعد وفاة القائد المؤسس، بل إنها تقدس كل مقولاته دون النظر إنها تخص مرحلة سابقة، ولا يمكن أن تناسب المرحلة الحاضرة، وهذا يسبب كسل في المسلكية الثورية التي تحث على ضرورة إبداع فكر جديد ومواصلة تعديلها عن طريق النقد والنقد الذاتي، فهي لا تكسر قاعدة الانضباط كما يتصور البعض، بل إن الانضباط يعني أن أبناء التنظيم ملتزمون بقرارات القيادة التنظيمية الحالية، وما تراه مناسباً من التراث الفكري التنظيمي.
وإن كان هذا النوع من الحب السياسي يسمى الصاعد من القواعد والأطر الدنيا نحو القيادة الحالية، فهو لن يصعد أبداً إذا كان حب القواعد التنظيمية للقائد المؤسس أكبر من حبهم للقيادة الحالية، وهذا الاختلال يخلق تصدعات داخل مفاهيم الولاء للقيادة الحالية وتماسك الوحدة التنظيمية وقدرة التنظيم على تنفيذ قراراته المركزية. وأكثر من هذا فهو يؤثر بالحب الهابط من القيادة الحالية إلى القواعد التنظيمية، بسبب أنها لا تشعر أن هناك رضى حقيقياً من القواعد التنظيمية على قراراتها، وللدفاع عن مهابة القيادة وقرارتها فإنها تعمل على إبداع أسلوب مغاير لممارسة القائد المؤسس مع الأطر القاعدية دون الإخلال بقواعد المسلكية الثورية، أساسها الخوف من العقاب أكثر من فكرة الحب السياسي.
فهي كما قال الخليفة معاوية بن أبي سفيان: إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها". ففرض مهابة لحكمه الجديد رغم أن أسلوب اتخاذ قراراته كان مغايراً تماماً لكل من سبقوه في الحكم. أما ميكافيلي فقد وصل إلى ما يلي: على الأمير أن يفرض الخوف منه، بطريقة يتجنب بواسطتها الكراهية إذا لم يضمن الحب، إذ إن الخوف وعدم وجود الكراهية قد يسيران معاً جنباً إلى جنب، لأن الناس يحبون تبعاً لأهوائهم، ولكنهم يخافون وفقاً لأهواء الأمير وإرادته.
وأما كوجيتو فاستنتج أن: لا قانون حقيقياً وراء التكتلات داخل التنظيم السياسي، فالقواعد تصرخ أن الإقصاء التفاعلي هو سبب، والقيادة التنظيمية ترى أن مراكز القوى ودرجة انضباط القواعد هي المحرض للتكتلات، أما مراكز القوى فتعتبره الوضع المثالي للتنظيم حتى لا يصل لمرحلة الانقسام والانشقاق. لكن الحب السياسي بالمجمل يرفض المغالاة بالحب، فكل من يعمل يخطئ، وبالتأكيد أن كل مؤسس ثورة مر بمرحلة تجريبية لأفكاره وكانت مليئة بالمغامرات المتهورة أو القاتلة كما وصفها الكابتن جياب: الخيانة السريعة للذات قبل اختمار فكرة الثورة.
أما الشق الأخير من فلسفة الحب السياسي فهي أبغض عدوك هوناً ما، وهي براغماتية سياسية تؤمن بعدم دوام العداء للأبد، بل أن المصلحة العامة تقتضي التحالف مع أعداء الأمس ضد أعداء جدد يشكلون خطراً جديداً على الحكم. فقد كانت الأحزاب اليمينية والليبرالية متحالفة ضد الأحزاب اليسارية في الماضي، ولكن الليبرالية الحديثة ترفض التحالف مع اليمين الديني وتعتبره خطراً جديداً ولهذا فهي قلبت أعداء الأمس اليساريين إلى حلفاء لمواجهة خطر الزحف اليميني الديني في تحوير الوعي الشقي للمعادلات السياسية، سعياً للحفاظ على السلطة أطول فترة ممكنة، وإرهاق الخصم السياسي. وهذا ما أكده كارل سميث عن أن: الاختلاف السياسي مبني على فهم واضح يميّز بين الصديق الحليف والعدو النقيض والخصم المنافس في كل مرحلة من مراحل تطور الحزب السياسي، وأن الاختلاف السياسي عبارة عن مجموعة عوامل متغيرة ترفض الثبات والجمود.
أما في الثورة فإن الحب السياسي يطرح الوحدة الوطنية الميدانية بديلاً عن الحزبية إلا أنها لا تنجح في إنهاء الحزبية داخل جبهة الثورة، بل أن هناك صراعاً داخلياً في الثورة أطلق عليه ألبرت ميمي اسم العنف الرمزي للدفاع عن أسلوب عمل التنظيم الثوري داخل جبهة ثورة، وهذا العنف قد يصبح دموياً إذا كان هناك خطر على التنظيم الثوري من خصومه الثوريين، إلا أنه يضمر في مرحلة تصاعد العنف الثوري ضد عدو جبهة الثورة.
فإذا كان الوعي الشقي يعني الاعتراف أن الخصم السياسي يطرح فكراً سياسياً قادراً على استقطاب الجماهير له، فهذه ليست كارثة عند براغماتيين، لأن التحالف مع الخصم يعني تحالف جماهير الخصمين السياسيين ضد خصم ثالث يشكل خطراً على كليهما، والشقاء الكبير يكون بتقلب مزاج الجماهير بين الوحدويين الذين يسعون لدمج الخصمين في تكتل واحد مثل خلق جبهة ثورية، وبين الجماهير المؤدلجة بفكر تنظيمي محدد يرفضون إعادة تشكيل أفكارهم، حتى ولو كان هذا في مصلحة تحقيق هدف الثورة بطريقة أسهل وأسرع، بل إنهم يتبنون فكرة الفليسوف كانط: بأن الفكر المستورد من الخارج، قد يناسب المجتمع والحكومة وكل مكونات الدولة إلا الجيش والحزب السياسي.
وهذا يعني أن العنف الرمزي لابد أن لا يخرج من دائرة النقاش والتنظير السياسي داخل جبهة الثورة، خصوصاً إذا كان هناك عدو نقيض يضرب جماهير الثورة بعنف، والمطلوب من جبهة الثورة رصّ صفوفها وتصعيد عنفها ثورياً للانتقال لمرحلة المد الثوري، لأن البقاء في مرحلة الجزر الثوري مدة طويلة يحوّل اتجاه البنادق نحو الخصوم السياسيين مع مهادنة غير معلنة مع العدو النقيض، والغريب أن هنري كسنجر استنتج أن أفضل وقت لضرب الفيتناميين هو أثناء ممارستهم العنف الرمزي، بسبب أن شعبية كل التنظيمات الثورية تكون بالحضيض، وأن الإعلام يكون تركيزه على حرب الأخوة أو ما يسمى بالعنف الرمزي.
وخلاصة القول أن الحب السياسي هو فكرة استقطابية لتحقيق هدف الثورة، وبما أن هدف الثورة تدمير العدو النقيض، فإن التساهل والتسامح يكون مطلباً جماهيراً بين التنظيمات الثورية مهما وصلت درجة الخصومة السياسية بينهم، كما أن الثورة قد تحتاج لأكثر من جيل حتى تحقق هدفها بالنصر، وبالتأكيد أن كل مرحلة لها قيادة تتفاعل مع ظروف الثورة دون جمود الأفكار وإبقاء وصايا الرعيل المؤسس كأنها عائقاً بين القيادة الثورية وجماهيرها. فالمغالاة في حب الثوار المؤسسين يشكل عائق يمنع استمرار الثورة ويحجب الثقة عن قيادة الثورة، ومن جانب آخر فلا يوجد مغالاة بالكراهية في الفكر الثوري، فالتحالفات والعداوات وحتى الخصومات كلها خلافات سياسية، فلا يوجد ثورة تطرح قتل كل شعب العدو النقيض، بل إن هدف الثورة هو تحرير الأرض وتمكين الجماهير من العيش بسلام فوقها، فإذا اقتنع العدو النقيض بهدف الثورة، ورضخ لشروط الثورة، فهذا هو انتصار الثورة، وانتفاء أي مبرر لاستمرار قتال الثوار للعدو النقيض، لأن اعترافه بهدف الثورة أسقط عنه صفة العدو النقيض.