تَشهدُ أوروبا منذُ سنواتٍ تحوّلاتٍ جذريةً في خارطةِ القوى السياسيّةِ والاجتماعيّةِ، وتحوّلاتٍ أخطرَ في مزاج الرأيِ العامِّ في كلّ دُولِ الاتحادِ الأوروبيّ.

هناكَ أسبابٌ متعدّدةٌ لنُموِّ تأثيرِ القوى اليمينيّةِ وارتفاعِ شعبيّتِها، ولعلَّ واحدًا منْ أهمِّ هذهِ الأسبابِ هو فشلُ القوى التقليديّةِ في مواكبةِ احتياجاتِ المواطنينَ وتطبيقِ مبدأ العدالةِ الاجتماعيّةِ، إضافةً إلى عَدمِ استيعابِ أهميّةِ الدّورِ المفصليِّ لوسائلِ "التّواصلِ الاجتماعيِّ" في التأثيرِ على توجّهاتِ المُجتمعِ وتغييرِ قناعاتِهِ. 

وفي المقابلِ يمكِنُنا الجَزْمُ أنَّ ما تَشهدُهُ القارّةُ العجوزُ من انقساماتٍ داخليةٍ حادّةٍ هو بشكلٍ أو بآخرَ واحدةٌ من نتائجِ الموجاتِ الارتداديّةِ لزلزالِ "الربيعِ العربيّ" الذي شاركتْ في التخطيطِ لهُ وفي تنفيذِهِ بعضُ الدُّولِ الأوروبيةِ الرئيسةِ. وإذا كانَ الإرهابُ الذي ضربَ الدُّولَ العربيّةَ قد أدّى إلى تفكيكِ بُنْيَتِها وأودى بحياةِ أعدادٍ لا تُحصى من مواطنيها، فإنّ هذا الإرهابَ قد ضربَ أيضًا دُولاً أوروبيةً عديدةً بشَكلٍ أثارَ الذُّعرَ في مجتمعاتِها التي اعتادتْ على حياةِ السّلمِ والهدوءِ لفترةٍ طويلةٍ، وهو ما شكّلَ أرضيةً خصبةً لحَملاتِ الكراهيّةِ والعنصريّةِ ضدّ العربِ والمسلمينَ وضدَّ أصحابِ الرأيِ الآخرِ من الأوروبيينَ أنفسِهم.

 

في صيفِ ٢٠١٥ اجتاحتْ أوروبا موجاتٌ متتاليةٌ من اللاجئينَ الفارّينَ من وَيلاتِ "الرّبيعِ العربيّ" الذي شكّلتْ سوريا وليبيا أكثرَ فُصولِهِ دمويّةً وخرابًا، ولم تتمكّن الحكوماتُ الأوروبيّةُ أو مؤسساتُ الاتحادِ الأوروبيِّ منْ تَوحيدِ مواقفِها للتّعاملِ معَ هؤلاءِ اللاجئينَ الذينَ اخترقوا الحُدودَ واحتلّوا محطّاتِ القطاراتِ والساحاتِ العامّة. وقد كانَ الموقفُ الألمانيُّ باستقبالِ مئاتِ الآلافِ منهُمْ الأكثرَ شجاعةً وإنسانيّةً، وأدّى إلى نزعِ فتيلِ الأزمةِ واحتوائها قبلَ أنْ تتمكّنَ أوروبا منْ "شراءِ" الموقفِ التركيّ عبرَ اتفاقيّةٍ أدّتْ إلى إغلاقِ البوابَةِ التركيةِ في وجهِ اللّاجئينَ الهاربينَ منْ جَحيمِ الحربِ في سوريا. 

 

لقد كانتْ أزمةُ اللاجئينَ في صيفِ ٢٠١٥ تتويجًا للآثارِ المُباشِرةِ لِما حلَّ بالعالمِ العربيِّ من دمارٍ وخرابٍ، والذي كانَ لأوروبا دورٌ محوريٌ في الترويجِ لهُ أو -في أحسنِ الأحوالِ -السّكوتِ عليه. ولعلَّ هذهِ الأزمةَ هي أحدُ أسبابِ توقّفِ أوروبا عنْ دَعمِ المعارضةِ السوريّةِ، وهو ما شكّلَ عاملاً مُهمًّا منْ عوامِلِ اقترابِ الحربِ في سوريا من نهايتِها.

 

في هذا السياقِ يجبُ فهمُ ما نشهدُهُ الآنَ من تزايدِ نفوذِ قوى اليمينِ المتطرّفِ في العديدِ من دولِ الاتحادِ الأوروبيّ، بما تشكّلهُ هذهِ القوى من خطَرٍ على التركيبةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ في دولِ أوروبا مُنفردةً وعلى الاتّحادِ الأوروبيِّ بصفَتِهِ أداةَ أوروبا لتوحيدِ طاقاتِها وسياساتِها الداخليّةِ والخارجيةِ ولمواجهةِ التّحدياتِ التي تعترضُ طريقَها في ظلِّ احتدامِ التنافسِ بينَ الأقطابِ المؤثّرةِ في السياسةِ الدوليّةِ، وفي مقدّمتِها أمريكا وروسيا والصين. وعلى الرغمِ منْ صُمودِ العمودِ الفقريّ للاتحادِ الأوروبي، المتمثّلِ بألمانيا وفرنسا، أمامَ الهَجمةِ اليمينيّةِ المتصاعدةِ، فإنَّ دُولاً محوريةً قد وقَعَتْ في قبضةِ أحزابِ اليمينِ القوميِّ المتطرّفِ، ومنها إيطاليا والنمسا واليونان، إضافةً إلى دُولِ أوروبا الشرقيّةِ المُتحالفةِ ضمنَ مجموعةِ فيشيغراد (بولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا) والتي تشكّلُ حليفًا وفيًّا لإسرائيلَ وأمريكا، وتَعملُ على إضعافِ مؤسّساتِ الاتحادِ الأوروبيِّ والحَيلولةِ دونَ نجاحِ السياسةِ الألمانيّةِ-الفرنسيّةِ الهادفةِ إلى تعزيزِ دَورِ هذهِ المؤسّساتِ وتحقيقِ مزيدٍ من الوحدةِ على الأصعدةِ الاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والدّفاعيّة كافّةً، على أرضيّةِ الالتزامِ بسيادةِ القانونِ واحترامِ الدستورِ وتعميمِ ثقافةِ التسامحِ والانفتاحِ على الآخَرِ والحوارِ والتّعايشِ بينَ الثّقافاتِ المتنوّعةِ التي تشكّلُ أساسَ نهضةِ أوروبا وضمانةَ استقرارِها وتطوّرِها.

 

*الوطنُ العربيُّ وأوروبا جارانِ يربطُهُما التّاريخُ والجغرافيا وضِفافُ البَحْرِ الأبيضِ المُتوسِّطِ، ومَنْ حَفَرَ حُفْرةً لِجارِهِ وَقَعَ فيها.. هُوَ وجارُه

 

١٥-٨-٢٠١٩

 

*رسالة اليوم*

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان