تتنقل رواية "البستان والغرباء" للروائي العراقي جنان جاسم حلاوي، الصادرة مؤخراً عن منشورات المتوسط في إيطاليا، متتبعة سيرة ومسيرة خمسة من الشيوعيين العراقيين "المنشقين" ممن رحلوا إلى لبنان، وانضموا إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، وخاضوا يوميات ومعارك "حرب المخيمات".

والخمسة: نوح، وإلياس، وسعد، ونسيم، وحنش، رحلوا معاً فراراً من الموت في بلدهم الأم بجوازات سفر مزورة صادرة عن "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" كحال الكثير من الفدائيين الفلسطينيين في ذلك الوقت ممن كانت مثل هذه الجوازات طوق نجاة لهم في كثير الأحايين، توزعوا على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وخاصة "الميّة والميّة" و"عين الحلوة" في صيدا، و"شاتيلا" في بيروت.

وهناك، وعبر حكاياتهم وما عاشوه وعايشوه، يرصد لنا حلاوي تفاصيل كثيرة حول "حرب المخيمات"، وما سبقها من مجازر، غير مبتعد عن تفاصيل الصراعات السياسية والمذهبية، والتحالفات المتغيّرة، والتفاصيل الاجتماعية والنفسية لحيوات الفدائيين، الشيوعيين منهم وغير الشيوعيين، مقدماً بذلك وجبة أدبية وتاريخية عميقة وربما تكون غير مسبوقة من قبل لجهة الزمان والمكان وبؤرة الحدث.

ويمكن الحديث بثقة عن أن الأمكنة بتفاصيلها كانت "بطل" الرواية بلا منازع، حيث أبدع حلاوي في الوصف الدقيق الذي يجعل القارئ وكأنه يسكن الأزقة، ويشتم الروائح، ويبصر شخوص الرواية وكأنه بينهم، أو واحداً منهم، ولذلك ربما لجأ إلى التعريف بالكثير من هذه الأماكن، وخاصة الشوارع والمناطق والحانات في "الحواشي"، كـ"دوّار الأميركان"، و"خمارة أبي محمد الكبّة"، و"حارة صيدا"، و"الشرقية" ... وهو ما انطبق على أنواع الأسلحة التي ترك فارغ رصاصها بين أسطر صفحات الرواية، حيث برزت قذائف الـ"آر بي جيه"، ورشاش "الكلاشينكوف"، وصواريخ "ستريلا"، ورشاش "الخمسمئة"، و"الأنيرغا"، ومدفع "الهاون"، وغيرها.

عاش العراقيون الخمسة كفلسطينيين في المخيمات التي لجؤوا إليها بعد سكانها الأصليين بعقود، بل إنهم حملوا بطاقات تدلل على أنهم فلسطينيون، وانضموا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية ذات التوجه اليساري، وهناك، أي في المخيمات، عاشوا تفاصيل حيواتهم الميدانية على أكثر من صعيد، فعلاوة على انشغالاتهم المستمرة في العمل المقاوم، كان لهم حكايات في العشق والهوى، إلا أن أياً منهم لم يرتبط بزوجة لقناعتهم بأن لا استقرار في حياة الفدائي، أو كما نقول في الدارجة "على كف عفريت"، وهنا كان ثمة جرأة في طرح العديد من التفاصيل المتعلقة بيوميات الفدائي دون تزويق أو تبجيل، وبشكل لا يتعارض مع إنسانيته، ويجرده من أي هالة أسطورية، وإن كان يرى البعض أنه يستحقها.

لم يعتمد حلاوي التقنية التقليدية في الرواية حيث يسير الحدث متصاعداً، ومن ثم يمر بمطبات ما، أي حدثا وحبكة وحلا للحبكة وما إلى ذلك، بل كان يقدم إضاءات توزعت على ثلاثين فصلاً، كل منها تناول حكاية واحد من الخمسة، ليعود بعدها بفصول إليه مجدداً راصداً مشاهد تبدو من ذاكرته الخاصة، أو ذاكرة المحيطين به، هو الذي، أي الروائي، عايش تفاصيل هذه الحرب بشكل مكثف، ففي كل فصل ثمة واحد من الخمسة وصديقته وجغرافيا تتغير بتغير الفصول ما بين مخيم وبلدة وحارة، مع أنه، وفي مطلع الرواية خطّ تنويهاً مفاده "هذه الرواية برمتها من وحي الخيال، وأي شبه بين أشخاصها وحوادثها وأمكنتها مع أناس حقيقيين وحوادث وأمكنة حقيقية هو محض مصادفة، ومن عجائب المخيلة، ويخلو من أي قصد".

وتعددت أصوات الرواة في "البستان والغرباء"، وإن كانت جميعاً، في الغالب، بصيغة "الأنا"، حيث تناوب الفدائيون الخمسة وصديقاتهم على لعب هذا الدور، وكأن كلاً منهم يروي حكايته وحكايات المحيطين به، دون أن تكرر الحكايات بألسنة مختلفة.

وكان حلاوي كشف لـ"أيام الثقافة"، أن اسمه الحركي مع المقاومة الفلسطينية، كان "يوسف"، وأن رفاقه كانوا ينادونه بلقب "أبو الزوز"، مشيراً إلى أن القصص التي لا تنسى في تلك الفترة كثيرة، ومنها ما ذكره في روايته الأخيرة "البستان والغرباء".

وقدم حلاوي إلى شاتيلا في العام 1984، ومع اندلاع حرب المخيمات "عادت كوادر من منظمة التحرير لترتيب قواعدها العسكرية، خاصة في صيدا، وبالتحديد في مخيمي الميّة وميّة وعين الحلوة .. في تلك الفترة كنت أتدرب في قواعد جبهة التحرير الفلسطينية، قبل أن أنضم لاحقاً إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .. حكاية هدى وأمينة، واستشهاد مراد كانا من أصعب الأوقات عليّ في تلك الفترة" .. وهي من الحكايات الواردة بشكل أو بآخر في الرواية، علاوة على حكايات مؤلمة لم تخل من عنف على أكثر من جهة، ليس أشدها القتل فحسب.

"... وجود إملي بجواري أشاع في صدري إحساسًا سعيدًا، أتمنى لو يستمر. كم سيكون الأمر مختلفاً، لو أنني أرافقها في أيام السلم، لا حواجز تعترض، لا بنادق تهدد، لا متاريس ترصد، لا جهنّميات. الحرب تجعل الحياة ممتلئة بكل ما هو غير ضروري: الخوف، الوسواس، التوجس، التوتر، الانزعاج، الترقّب، الرّيبة، الكآبة، التشنّج، البكاء، الأرق، زحمة استدراكات وارتطام أسئلة، كل أولئك يرميك في السوداء (الجنون)، يجعلك مشتاقاً إلى العيش في الفراغ خارج مجرى الزمن ...".