أنعم الله سبحانه وتعالى على الشعب الفلسطيني برجلٍ امتلك من الطاقات والقدرات والمواصفات ما أهَّله فعلاً ليقود معركة صناعة المتغيِّرات، وقيادة مسيرة ترسيخ التحولات التاريخية والجذرية في تاريخ الشعب الفلسطيني، فقد أسهم مع رفاق الدرب الأوائل بتحويل ملف اللاجئين القابعين في خيام البؤس والتشرُّد إلى قضية تحرير وطني، ساعده على ذلك شخصية فذة، وثقافة واسعة، ووضوح رؤيا، وأفق سياسي إنطلق من فهم حقيقي لطبيعة الصراع القائم في المنطقة، وهذا ما جعل العالم يستمع جيداً للخطاب الفلسطيني، ويعترف بالحقوق المشروعة.
الرمز ياسر عرفات أعلن الانطلاقة، وأطلق الطلقة الأولى، وتسلَّم الراية وانطلق، كانت الثورة تكبر بحجم القضية، وكان أبو عمار يكبر معها بالضرورة، وتأثيره يتجاوز ساحته ليفرض نفسه على عموم ثورات عصره، وأصبح ذا تأثير واسع على المستوى العربي والدولي، وكان بحق رمز الشعب الفلسطيني، وكان محطَّ إجماع بأنه أبو الوطنية الفلسطينية، وهذا ما جعله حقيقةً صمَّام أمان الوحدة الوطنية في الساحة الفلسطينية. وهذا في الواقع ما جعل ياسر عرفات يرتقي إلى مستوى الرمزية الدولية جنباً إلى جنب مع مشاهير العالم أمثال جمال عبد الناصر، ونيلسون مانديلا، وجواهر لال نهرو الذين تركوا بصماتٍ واضحة في تاريخ شعوبهم.
لعلَّ ما ميَّز ياسر عرفات في مسيرته الكفاحية الوطنية هو أنه يقود أعظم وأعقد ثورة في تاريخنا المعاصر، فكل الثورات قاتلت على أرضها، وتصدَّت للاحتلال الخارجي لبلادها بينما الثورة الفلسطينية شعبها مُشتَّت بين الداخل والخارج، وموزَّع من جرَّاء النكبة في العديد من الأقطار تؤثِّر عليهم عوامل اجتماعية وحزبية وسياسية وأمنية متفاوتة. إضافة إلى أن الاحتلال البغيض لأرض فلسطين هو إحتلال استيطاني اقتلاعي اعتمد سياسة المجازر، والقتل، وتدمير البيوت، واقتلاع الأشجار، والعدوان المتواصل، وتهويد المقدسات، واستبدال كل ما هو قائم بما يُجسِّد بدعة "الدولة اليهودية". ومن هذا المنطلق كانت صعوبة تحديد منطلقات الثورة الفلسطينية، والنظرية الفتحوية الوطنية الاستثنائية التي جعلت من حركة فتح العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية. وجعلت من ياسر عرفات القائد الوطني المطلق للثورة الفلسطينية دون منازع، وهو الذي عرف كيف يصنع لها مبادئها التي تتناسب مع واقع الشعب الفلسطيني ومنذ البداية اعتمد منهجية تقوم على أساس توحيد الشعب الفلسطيني بكامله بكل طبقاته وشرائحه وأحزابه في مفهوم وطني واحد يُشكِّل جبهة واحدة موحَّدة ضد الاحتلال الاسرائيلي، والصراع هو ضد هذا الاحتلال الذي تسبَّب في مأساة الشعب الفلسطيني وتهجيره، والاستيلاء على أرضه وممتلكاته، والتنكيل بالأَهالي، واستيطان الأراضي.
عظَمةُ ياسر عرفات وتميُّزه في المحافل الدولية الدبلوماسية والسياسية، وفي الميادين العسكرية، وبشكل ملفت، وعبر نصف قرن جعل الثورة تكبر وتنضج وتتألَّق، ومعها كان يكبر الرمز ياسر عرفات، وكان باستمرار ينشر كوفيته لتُظلِّل شعبه وتوَحِّده عند الملمَّات وعند الامتحانات الصعبة، وعند الانتصارات.
مواقفه التي ميَّزته، وميَّزت خطابه السياسي والوطني هي التي ساعدته على اقتحام كافة القلاع والمحطات، والمؤسسات والهيئات الدولية بنجاح باهر، وظلَّت مواقفه ومقولاته تحفر عميقاً في ذاكرة ووجدان كل من عرفَه في مختلف المراحل. فهو الذي حدَّد استراتيجية العمل الثوري مخاطباً دول العالم في هيئة الامم المتحدة قائلاً: "غصن الزيتون بيد، والبندقية باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي" إنَّ هذا التعبير يحمل من الدقة والمصداقية ما يجعله خير تعبير عن السياسة الاستراتيجية الفلسطينية، فنحن انطلقنا ومعنا الطلقة الأولى والعملية الأولى فشعبنا يمتلك الجرأة والخبرة والارادة ليتعاطى مع العدو المحتل بقوة المقاومة العسكرية، ولكنَّ هذا المنهج يترافق مع الوعي السياسي للمتغيرات على أرض الواقع، وهو منهج قادر على العمل العسكري، وقادر أيضاً على التفاوض السياسي الذي يصبُّ في خانة إستعادة الحقوق الوطنية، واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وقد أثبتت حركة فتح المصداقية في كل المراحل، فهي اضطرت للتوقيع على اتفاق أوسلو لضمان إستمرارية الحضور في الجغرافيا الفلسطينية السياسية، وتجنُّباً لعملية الشطب الدولية والاقليمية، ولكنها عندما كانت هناك محطات فيها التحدي وهناك حاجة للعمل العسكري كانت معركة النفق العام 1996، وكانت الانتفاضة بعد العام 2000 عندما قرَّر ياسر عرفات تحدي كافة التهديدات والإغراءات الاميركية مقابل التنازل عن حقوقنا المقدسة في القدس وأقصاها، ومقابل التنازل في موضوع اللاجئين وعودتهم إلى أرضهم التي شُرِّدوا منها العام 1948. وأثبت ياسر عرفات بأننا لا نقاتل من أجل القتال، وأن البندقية وسيلة وليست غاية، فغايتنا هي تحرير أرضنا، واستعادة حقوقنا، وبناء دولتنا، وتطهير مقدساتنا، وامتلاك سيادتنا على أرضنا.
وقد أنصف الاستاذ نبيه بري دولة رئيس المجلس النيابي اللبناني عندما قال:" إنَّ أبا عمار إستطاع أن يجيد إدارة المزاوجة بين السلطة والمقاومة والانتفاضة وأن يحرِّك خيوطها جميعاً". إن إستهدافه من قِبَل الموساد الاسرائيلي بالسم كان المحطة الأخيرة من حياته، والتي ما زالت تتفاعل حتى هذه اللحظات بحثاً عن الجهة المنفِّذة لعملية الاغتيال، فياسر عرفات ليس مُلكاً لأسرة أو عشيرة إنما هو ملك لأمة. ورغم بوادر المرض، ورغم اشتداد الألم، ورغم معرفته بأن وضعه أصبح مأساوياً لم يكن يفكر بمغادرة المقاطعة خوفاً من ان لا تسمح "إسرائيل" بإعادته، ورغم تدخل عدة جهات لإخراجه من المقاطعة للعلاج خارج الاراضي المحتلة إلاَّ أنه رفض ذلك احتراماً لإرادة شعبه، ولأنه لا يريد أن يتخلى عن شعبه تحت الاحتلال، فهو رمز، والرمز عليه أن يتحمل الأعباء حرصاً على من يمَّثل. وبقي يصارع الموت حتى شعر بنفسه أن الموت قد آن وأنه أصبح في حالة الوداع عندها وافق على المغادرة، وودَّع شعبه بالقبلات ليشعرهم أنه عائد بينما هو مودِّع. هو الذي قال مقولته الشهيرة والتي أصبحت عنواناً للصمود والتحدي:"يريدونني أسيراً أو طريداً، وانا اقول لهم بل شهيداً.. شهيداً.. شهيداً".
في مستشفى بيرسي العسكري ودَّع الحياة ليَلقى وجه ربه في جنان الخلد، ورحيله شكَّل صدمة لكل من عرفه من شعوب العالم، وحتى الذين عارضوه وانتقدوه اعتذروا منه بعد غيابه، واعطوه حقه بعد ان أنكروه عليه.
لقد أمضى حياته متنقلاً بين المخاطر وهو مطمئن لأنه سلَّم أمره إلى الله. ففي بيروت تعرَّض للعديد من عمليات الاغتيال، والطائرات كانت تلاحقه من مكان إلى مكان تقصف الابنية والبيوت دون جدوى، وطائرته سقطت في الصحراء الليبية لكنه الله سبحانه أنجاه من الموت. الطائرات الاسرائيلية قامت بقصف حمام الشط في تونس ظناً منها أنه يداوم في مكتبه هناك بينما هو كان في منزله في العاصمة، وقد أعطى تعليمات للجميع بالحيطة والحذر لإنه كان يتوقع ذلك لكنَّ شجاعة كوادرنا جعلت العاطفة تطغى على العقل. الرئيس ياسر عرفات رحل لكنه في واقع الأمر ترك مدرسة ثورية تربى فيها القادة المؤسسون، والثوار المقاتلون، إنه مدرسة القرار الفلسطيني المستقل، مدرسة صاحب القرار الصعب، مدرسة الوحدة الوطنية، المدرسة الواقعية، مدرسة الثوابت الوطنية الفلسطينية. لقد أثبت خليفته الرئيس أبو مازن مقدرته على تحمُّل مسؤولية حماية الثوابت الوطنية، ثوابت ياسر عرفات، ثوابت الوحدة الوطنية. هذه المدرسة العريقة التي مازالت تقود هذه الثورة تستوحي مواقفها من رمز فلسطين الذي قال فيه معارضوه نختلف مع ياسر عرفات لكننا لا نختلف عليه لأنه الرقم الصعب.
الرمز ياسر عرفات عندما انتصرت الثورة المصرية ثورة الضباط الأحرار بعث خطاباً إلى اللواء محمد نجيب أول رئيس لمصر، والخطاب ثلاث كلمات فقط لكنهنَّ معبرات :" لا تنسَ فلسطين". عاش ياسر عرفات ومات من أجل فلسطين التي صنعت منه رمزاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها