بقـلم/ محمد سرور
نجاح صفقة تبادل السجناء والمخطوفين ربما تكون البادرة الإيجابية الوحيدة منذ اندلاع الأزمة السورية وحتى الآن.
برفقة اللواء عباس إبراهيم ووزير الخارجية القطري، وبعد تأخر لوجستي قسري عاد الرهائن اللبنانيون التسعة إلى أهلهم ووطنهم، وسط احتفالات عمَّت مختلف المناطق اللبنانية، وأسَّست إلى مرحلةٍ أفضل، لجهة تخفيف الاحتقان الداخلي وتوقف حركة ردود الأفعال المتنقلة التي سادت خلال فترة خطف اللبنانيين في أعزاز، على أيدي قوات لواء عاصفة الشمال التابعة للجيش الحر.
فبعد سبعة عشر شهراً من الغضب والتشنج جراء الوعود التي لم تتحقق، نجحت الدبلوماسية اللبنانية والإقليمية في إحداث الثقب اللازم بجدار المناخ السوداوي الذي سيطر على مساحة الفترة الأمنية الممتدة منذ اللحظة الأولى لعملية الخطف إلى حين نجاح عملية التبادل.
بالطبع جرت سابقاً محاولات جادة وصادقة لتحرير المخطوفين، لكن يبدو أن رمال الواقع السوري المتحركة أبت أن تنجح باكراً تلك المحاولات.
فعمل كهذا يحتاج إلى جهود جبارة، لا تتوقف عند حواجز ومعوقات، وإلى دينامية كتومة تستطيع انتزاع الثقة من المعنيين المباشرين بالأزمة، وبالطبع تحتاج إلى الأطراف المؤثرة والحاسمة لحظة اتخاذ القرار بنجاح المفاوضات.
هذه الشروط توافقت مع شخصية المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم، الذي تحرك بجدية وصمت في ملاحقة وربط الخيوط التي تحدِّد الأطراف المعنيين بالقضية والقادرين على حلها.
التقارير الصحفية التي نتجت عن تسريبات رسمية خلال وبعد إتمام الصفقة تحدثت عن الدور الإيجابي والمثمر الذي لعبته القيادة الفلسطينية بشخص الرئيس محمود عباس ومن خلال توجيهاته إلى سفراء فلسطين في كل من لبنان وسوريا وقطر وتركيا.
من المؤكد أن نجاح الدبلوماسية الفلسطينية في أدائها دور الوسيط والدافع باتجاه طي ملف المخطوفين يرتكز بالدرجة الأولى على الثقة بنزاهة ومصداقية الخطاب والأداء الرسميين، وعلى تشدد الرئيس الفلسطيني في السعي إلى "سداد بعض الدين" الذي للبنان على فلسطين.
ربما أيضاً مبادرة المعنيين بملف المخطوفين إلى التجاوب مع المساعي الدبلوماسية تعود إلى قناعتهم بضرورة تجفيف القضايا التفصيلية العالقة، من أجل تسهيل ضمان إمساكهم بالملفات الإستراتيجية التي هم بصدد حملها إلى مؤتمر جنيف 2، وبالتالي تجريد لاعبين ثانويين من ورقة يفترضون أنها قادرة على التشويش والتلاعب بمكونات الأطر المعنية بالحوار والتفاوض حول مستقبل سوريا.
الوسيط الدولي- الأخضر الإبراهيمي- كعادته بدا متحفظاً حيال إعلان الأمين العام للجامعة العربية- نبيل العربي- عن الثالث والعشرين من الشهر القادم موعداً لانعقاد جنيف2، إلا أن الإشارات الروسية بدت واضحة لجهة انعقاد المؤتمر، ولكي تتضافر جهود المؤتمر إلى النجاح، دعا وزير الخارجية الروسي دول الجوار كافة إلى الحضور كونها شديدة التأثير على مكونات المؤتمر.
المعارضة السورية لم تزل تعاني من مرض الانقسام العامودي. فباستثناء الائتلاف الذي وافق على حضور المؤتمر، لم يزل المجلس الوطني وقيادة أركان الجيش الحر مصرّين على عدم الحضور، أو على الأقل، المناورة من أجل الحصول على ثمن ما من أجل الموافقة.
مع العلم أن الائتلاف والمجلس الوطني يضمان عدداً لا بأس به من المحللين والعارفين بخفايا الأمور التكتيكية والإستراتيجية التي تشير بوضوح إلى التفاهم الروسي- الأميركي حيال الأزمة السورية، وإلى اكتفاء الولايات المتحدة بتدمير الترسانة الكيميائية السورية، بصفتها الخطر الوحيد الذي يهدد إسرائيل، وإلا كيف لنا أن نفهم الصمت العالمي المطبق حيال ما سمِّي "مجزرة ريف دمشق الكيميائية" والقيامة التي أقامتها أوروبا والولايات المتحدة ضد النظام السوري المتهم بارتكاب المجزرة؟
على المعارضة السورية أن تحزم أمرها وتذهب إلى المؤتمر، لأن داخل بلدها تدور حرب أهلية بلا أفق ولا ضوابط، ولأن اللاعبين بالداخل السوري الآن لم يعودوا النظام والمعارضة وحدهما، بل هناك من الغدد السرطانية الكثير، فمن المستحيل أن تتعايش مع أي كان.
على المعارضة السورية عدم التردد في التمثل بالمؤتمر، لأنها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في حرب عبثية لا هدف لها، وما انتظار الوقت لكي تشهد على حقيقة تهميشها وتفككها، وبالتالي لا وريث لها سوى قوى التطرف.
على المعارضة السورية أن تفهم حقيقة انتقال الاهتمام الأميركي من الشرق الأوسط إلى الحييط الباسيفيكي، خاصة التغيرات السياسية القائمة على فرضية الإنتاج الجديد لخارطة النفط والغاز في العالم.
وأن تعلم المعارضة السورية أن الحوار الإيراني- الأميركي بشأن الأزمة السورية يضمن البوابة الشرقية لإيران- بحر قزوين وأفغانستان وباكستان وأذربيجان..؟
إن الشاهد الأكبر على التحول الأميركي- بالمعنى الإستراتيجي- الرافض غير المسبوق للمملكة العربية السعودية لجهة قبولها في عضوية مجلس الأمن، لأن دورها فيه لن يكون ذا فائدة على مستوى قضايا المنطقة كافة. ألم تكفنا تجربتا العراق وليبيا؟
إن لم يبادر السوريون أنفسهم إلى إعادة لملمة ما تبقى من وطنهم من خلال تسوية تاريخية عمادها الشراكة الوطنية القائمة على مأسسة سلطات البلد وتطوير البنى والمكونات الديمقراطية التي تمنع التفرد وتزيل الظلم والاستبداد، فإن البلد، وبكل من عليه، ذاهب إلى المجهول الذي ينصِّب الوقت جداراً بين المناطق والمدن والأرياف والحارات والأزقة، لأن مسار الواقع يدفع باتجاه الجنوح إلى العنف المتنامي، والقائم على عصبيات النبذ والحقد واستسهال القتل وامتهان الجريمة.
فالانتشار المرعب للأمية، والتحلل من قيم التنشئة والتربية والاهتمام بالجيل الجديد الذي ينمو في ظروف الحرب ومناخها القائم، يعني الدفع به- الجيل الجديد- إلى أن يكون الورقة الرابحة في أيدي المحتربين، وخاصة القوى الظلامية المتطرفة.
الوقت هو الورقة الأخطر إن لم نحسن استغلاله، خاصة عندما تلبس الأولويات، وعندما تصير الأمور في الوسط بين العصبيات والعقل. لذلك علينا الإجابة على أسئلة الواقع، خاصة إذا نظرنا إليه- الواقع- بالمسؤولية الموجبة للسرد: إذا تمادت الحرب واستمرت على فلتانها من أيدي القادرين على ضبطها ووقفها، من يستطيع بعد ذلك ترميم وإعادة تأهيل المجتمع السوري؟
عندما تدمر الحرب حوالي 19000 مدرسة، ومعها تزول آثار الحياة المدنية. عندما يتم تدمير أكثر من 13 مدينة ومئات القرى، بكل ما تمثل من عمران وبنى تحتية وخدماتية، عندما يغيب المشهد الحضاري بكل أبعاده ومقوماته، ومعه تغيب الصناعة والزراعة وكل أشكال الإنتاج القومي، ما الذي يستطيع المتحاربون أن يفاخروا بانجازه؟
كأن العبر لا تُصدَّق إلا من خلال التجارب التي تفضي إلى تصديقها. فهل الانتصار والهزيمة يكفيان لكي نبني نموذج الوطن الذي رسمناه في أحلامنا أفراداً وقوى متصارعة، أم أن عماد قيامة الوطن وديمومته وجماليته لا يتحقق دون انتماء إليه، وإيمان بهويته، وشراكة حقيقية في دفعه باتجاه الانتساب للحضارة الإنسانية، من خلال السمو بالإنسان إلى مستوى الاحترام وضمان الحقوق وتأمين المستقبل الذي يليق به.
لنكف عن التفكير بعصبية العشيرة والقبيلة، بهيمنة الكبرياء الزائف على حواسنا ومداركنا، وبالتالي لنقرر مواجهته بالتواضع المعبِّر عن الحرص على الوطن.
إن الخارج يعبر إلينا بحيثيات ونظريات تبريرية فارغة، نستسلم لها لأننا لم نبادر إلى تعريف صراعاتنا الداخلية، وإلى تفكيك الفائض من الأسباب الشخصية التي تغذيها، بينما السبب الأساس يكمن في التراشق بالخطب الحربية الناتجة عن إفلاس العقل والتحكم بمسار التناقض الطبيعي، وصولاً إلى استقالة القيم والآداب من مضامينها لصالح الصخب الذي يحتل الحواسَّ ويغيِّب الدبلوماسية الخلاقة الساعية إلى تقطيب الجرح والسهر على شفائه. إن أسهل الخيارات هي الحرب، لكن حين تتدحرج كرة الدم تصبح الأصعب، لأنها تتمرد على كل من يفترض التحكم بمكانها وزمان انتهائها.
وإذ نبارك للبنان وتركيا عودة أبنائهم سالمين، فإننا ندعو لأن تكون هذه المحطة المفرحة بداية عهد جديد خلاصته الاعتراف بوحشية الحرب، وبأن السلام والحرية قيمتان أصيلتان ضروريتان للإنسان ومستقبله. شعب سوريا يحتاج غيرة الجميع لكي يعود إلى بيته ويستعيد كرامته.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها