بقلم: عماد الاصفر
أصاب قرية ماكوندو التي أبدعها خيال جابرييل جارسيا ماركيز في رائعته مائة عام من العزلة وباء الأرق، ومن طول ما سهر مؤسسو القرية وأحفادهم من آل بوينديا فقد اصابهم النسيان، نسوا كل شيء، حتى اسمائهم وأسماء الاشياء التي يستخدمونها في حياتهم اليومية.
راحوا يقاومون النسيان فعلقوا على بقرتهم يافطة تقول "هذه بقرة"، واضافوا في اليوم التالي "عليك ان تحلبها كل صباح لتحصل على الحليب"، ثم أضافوا بعد يومين "يجب ان يُغلى الحليب قبل إضافته للقهوة". وكتبوا "هذه مطرقة" واضافوا بعد يومين "تستخدم لدق المسامير "، ثم أضافوا وصفا للمسامير وتذكيرا باستخداماتها.
هؤلاء في ماكوندو المفترضة قاوموا النسيان، وتمكنوا بفضل مقاومته من القضاء على وباء الارق، وعادت لهم غفواتهم الآمنة وذاكرتهم الطبيعية، غيرهم في فلسطين الواقع تعايش مع النسيان، وبعضهم فرض على نفسه التناسي وسعى وما زال يسعى للوصول اليه، ولا يخجل من ترديد عبارة "النسيان نعمة".
ربما يكون لدى دعاة التناسي هؤلاء حنين يمحو الذكريات السيئة, ويضخم الطيبة، كما يقول ماركيز ولكن الاخطر أن بعض الأشياء الأخرى, التي لم يكن لها وجود أبداً في الواقع , يمكن أن تنتزع لنفسها مساحة في الذاكرة , كأنها حدثت بالفعل.
وهذا التناسي ليس حلا يؤسس لمصالحة حقيقية تُنفذ وتَنفذ، لا يجوز تناسي ان تسييس الدين لب المشكلة في وطننا وما جاوره، ولا يجوز التغاضي والتساهل في حق السلطة المركزية باحتكار السلاح وحق انفاذ القانون وحق وحدانية التمثيل الخارجي وابرام الاتفاقيات، ولا يجوز تناسي ان الانتخابات هي الفيصل، بغض النظر عن مدى متانة أي اتفاق.
أي اتفاق يتناسى هذه الحقوق او يتساهل فيها يؤسس لوضع مشابه لما كان الحال عليه قبيل الانقلاب، وهو حال لم يكن سارا، يؤسس لحال يقرر فيه أي فصيل تنفيذ عمليات وخوض حروب وقتما يحلو له، ويعقد الاتفاقيات ويدخل المحاور والتحالفات ويخرج منها وقتما يشاء، ويستخدم سلاح البلطجة والفوضى والفلتان وقتما يشاء، ويأخذ القانون بيده ويعطل انفاذ القانون وقتما يشاء، ويوافق على اجراء الانتخابات ثم يتراجع او يعرقلها وقتما يشاء.
التناسي ليس حلا، التناسي آفة والذاكرة القصيرة آفة، وعقولنا –ما شاء الله- جاهزة للتآمر مع هذه الآفة.
مقبلون على مواجهة جديدة مع الاحتلال، مواجهة لم تعد تنفع معها الادوات القديمة، مواجهة لا تنفع فيها تعددية الاجتهادات، الانتفاضة الاولى انتهت باوسلو وبعض كيان وبعض صلاحيات، واما الثانية فانتهت بجدار، وحروب غزة الثلاثة بسيل عارم من التراجع الوطني والهجرات، لم يعد هناك مجال للتجريب، العمل الوطني ليس لعبة طرنيب، وليس فركش وعيد التوزيع من جديد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها