بقلم: بكر أبوبكر
جاء التفجير الانتحاري الفلسطيني في مدينة رفح الفلسطينية ليعلن حالة الطواريء في قوات فصيل "حماس" العسكرية، وأجهزتها الأمنية التي تحمي الحدود مع (اسرائيل) ومع مصر، وليضع هذا الحدث خطا أحمرا تحت الكم الهائل من أكداس الجُمل التحريضية والتعبوية السلبية التي تمازج بين ثلاثية التخوين والتكفير والتعهير بشكل متصل.
أكداس الجُمل التحريضية هي التي دأبت التنظيمات الاسلاموية عامة (في فلسطين وخارجها) على تردادها، وكأنها مسلمات خاصة بها، وتُوجّه فقط ضد مخالفيها، دون أن تُدرك هذه التنظيمات ، وعلى رأسها "حماس" في غزة-بحالتنا الفلسطينية، أن هذا الخطاب التحريضي التعبوي السلبي المغلق ضد المخالف بالضرورة يشكل بيئة حاضنة تتنافس في التطرف لتثبت كل فئة للأخرى أنها الأكثر التزاما والأكثر تمسكا والأكثر قربا من النهج الصحيح وأن تلك الأخرى هي ذات الفكر المنحرف.
إضافة للعوامل الاقليمية والدولية، ما كان لفصائل "الجهاد الأفغاني" أن تختلف إن كانت تعبئتها "الجهادية" موجهة للخارج فقط، للعدو المحتل فقط، ولكنها أفاقت على وهج السلطة فتقاتلت حتى دالت دولتها، وفي ظل افتراق عشائري ومذهبي وفكري وسلطوي.
وما كان لفصائل الرفض للنهج التسلطي لنظام الأسد التي استندت للفكر المتطرف أن تتحد في ظل فكر طارد لغيره، فكر يتوسع ويحرق من ينتمي اليه فلا يُبقي بالذهن أخضرا ولا يابسا.
أكلت التنظيمات الاسلاموية بعضها بعضا على قاعدة فكرية أيديولوجية تنافسية في التطرف، وفي حقيقة أمرما بينها تنافس يجمع بين السلطة والدور والنفوذ والمصالح الاقتصادية والهوى والفهم المنحرف والاستغلال للدين.
ان التوجيه الفكري ضد الآخر من منطلق افتراض المطلق والصواب والنظافة والقداسة في ذاتي أنا كشخص او فصيل دون مراجعة أو نقد أو مساءلة، والقاء كل النجاسات والمفاسد والآثام على الآخر (المسلم) المختلف هو أسلوب ذاتي انتحاري! فكما تفترض بذاتك الطّهر، فإن غيرك ممن يحمل ذات الفكر بلون آخر يفترضه بذاته!
عندما يصبح رفض التعددية ورفض الاجتهادات ورفض "الديمقراطية" عنوان الجلسة التنظيمية الحزبية المستندة لأكداس من الكتب لا يطوق لحملها ظهر حمار أوبغل من الاوراق الصفراء، يكون "الاقتتال" هو النتيجة، ويكون "التطرف" وصفته المعدة سلفا لتنفجر قنابلها في وجه المجتمع.
لا اعتقد أن فصيل "حماس" قد صُدم بما حصل! فمن يتبع ذات الاسلوب الداخلي التحريضي الحاقد ضد الآخر، قطعا سيلاقي من يجابهه من ذات المحفل، ويجعله يشرب من ذات الكأس المرة، (وعلى نفسها جنت براقش).
ان التحريض الذي لم ينقطع في قواعد "حماس" ليس ضد العدو المحتل لأراضينا، وإنما التحريض الذي يمتد ليشمل الأخ على ادعاء أنه علماني أو كافر أو منحرف (الصفة التي تطلقها اليوم "حماس" على التنظيمات "السلفية القتالية" المناهضة لها) حتما سيؤدي لاحتقان وحقد وكراهية متبادلة لطالما حذرنا منها.
تعتبر حركة التحريرالوطني الفلسطيني- فتح في مقدمة المتضررين من تحريض تيار "حماس" الانقلابي الحاقد في غزة، ويتلوها الفصائل الأخرى (فالاول علماني وخطره أكبر والباقي يساريين كفار مكشوفين حسب التعبئة الداخلية الصلبة) والتضييق الممارس ضد الحركة منذ الانقلاب الدموي لحماس على غزة عام 2007 لم يتلوه فكر تصالحي أبدا إلا ممن رحم ربي من بعض قادة "حماس" الذي نحترمهم بينما تنطّع الآخرون لاصدار الفتاوى بالتكفير والتخوين والتشهير التي لم تنقطع حتى اليوم، والتي أيضا حذرنا منها طويلا. فأن تحرض يوميا ضد السلطة الوطنية الفلسطينية وضد المخالفين طُرّا لا يمكن أن يكون مثل هذا التحريض الا مثل النار تحت الرماد يحرق ما أمامه ثم يحرق صاحبه! وهذا ما حصل مع "حماس" في رفح، بل وسبق حادثة رفح من خلال اعتماد سياسة الاستبداد والاحتكار وتكميم الأفواه في غزة.
مطاردة حماس للتنظيمات "السلفية القتالية" والتي في معظم عناصرها من "حماس" نفسها تظهر الانتماء لذات البيئة غيرالصالحة أو المنحرفة التي تحتاج لإصلاح اليوم قبل الغد لتقبل الآخر على علاته.
ان التطرف الصادر عن هذه الجماعات ومن سنوات يظهر مستوى الفهم والوعي والادراك المنخفض لدى كادر "حماس" الذي على عتبة الفكرة والاختلاف المصلحي يقف ليجرد السلاح في وجه أخيه الذي يعتبره مسلما أو "اسلاميا" كافرا أو منافقا أو فاسقا! ما هو ذات الخطاب من "حماس" المستخدم ضد أي شخص يخالفها، بمعنى أن أسس الخلاف السياسي التي يجب أن تكون مقبولة ولا تنعكس دينيا هي ذات الأسس التي استخدمت وستستخدم في حرب التيارات الاسلاموية سواء في العراق او ليبيا اوسوريا (وضد الغرب) وحديثا في غزة من سنوات.
في سياق آخر فان التطرف الذي يضرب أوربا وفي اسبانيا مؤخرا بكل بساطة هو انطلق من ذات "القاعدة المعرفية التحريضية" التي تفترض الطهر والقداسة والصواب المطلق أو انها في معسكرالله وفسطاط الحق وغيرها في فسطاط الشيطان والباطل، فالفسطاط أنا وكل فساطيط العالم منحرفة أو كافرة غيري أكانت في غزة أو سوريا أو باريس أو برشلونة.
ولا أتفق أبدا مع تبريرات بعض قادة "حماس" أن الفقر والأحوال الصعبة في غزة هو مبرر التطرف فقط! على أهمية التصدي لهذا الواقع ودورة الايجابي في تحسين شروط البيئة، ولا أقبل بالتبريرات التي خرجت تقول أن ما حصل غريب عن شعبنا وديننا، وكفى الله المؤمنين شرالتغيير!
إن مفاجاة رفح الانتحارية (المتزامنة مع برشلونة) قد يكون ما بعدها، فلا يمكن أن نشعل النار وننفخ فيها يوميا وعندما تحرقنا نقوم بلعن النار أو من اكتوى بها بسببنا فقط.
ان العمل للتخلص من جذور الفكر المتطرف أو اسقاط "القاعدة المعرفية التحريضية" لدى التنظيمات الاسلاموية عامة سواء تلك المعتدلة أو تلك المتطرفة يحتاج لإراحة ظهر الحمار بحرق الكتب التحريضية التي يحملها، ويحتاج لتصالح مع الذات ويحتاج لمراجعة فكرية شاقة، ويحتاج لفصل الرأي السياسي عن التقييم الديني، ويحتاج لتبني الديمقراطية والمدنية والعقلانية والمحبة، ويحتاج لافتراض الخطأ والصواب بالذات دون تقديس وتدنيس، ودون الانغلاق في إهاب الفكرة الواحدة تحجرا وتصلبا يلقي بمفاتيح الفكر في بئر آسنة لن يستطيع أن يعود لها ليخرج المفتاح فالهواء العطن يقتل الروح.
ان انكار الخطأ من الذات وتنزيه النفس واسباغ القداسة وتعهير الآخر وتدميره بالأكاذيب والترهات، وتكوين جيل عقائدي حاقد على الآخر، هي وصفة سهلة للاسهال الفكري المنحرف، بحيث يفترض كل شخص بذاته ممتلكا لعصا القاضي يدق بها على الطاولة ضد فلان أو علان معلنا أنه كافر أو ضد الشريعة، أو أنه فاسق لمجرد خلاف حياتي أو سياسي أو نضالي فيقيم عليه الحد بنفسه.
كان من المتوجب نزع فتيل التفجير العقدي أو المذهبي لدى عامة التنظيمات الاسلاموية بنزع ثوب القداسة عن أي رأي، فالرأي بشري ويحتمل الصواب والخطأ حتى في أمور الاجتهاد الديني، ولا يقترن الرأي بنص ديني ليغلف ب"سوليفان" عدم المس به.
من هنا يأتي الجهد المبذول من كافة التنظيمات الاسلاموية قاطبة، ومنها "الاخوان المسلمين: بالاقرار بالفصل الكامل والكلي بين الدعوي والحزبي السياسي كما فعل الشيخ راشد الغنوشي، وكما كاد أن يفعل خالد مشعل في وثيقة "حماس" الأخيرة، لتهيئة المناخ للحوار والتسامح والديمقراطية والتداول والتوجه نحو القضايا الرئيسة فالعالم يسبقنا بسنوات نهضوية قد نصلها وقد نموت دونها.
لا نتمنى للأمة العربية والاسلامية بل وكل العالم الا الخير فكيف الحال ببلدنا فلسطين وبشعبنا الذي منه "حماس" إذ لا نتمنى لهم رغم كل الاختلافات السياسية الا كل الخير الذي سيأتي حتما حين يدرك الجميع أن فلسطين تتسع لجميع الفلسطينيين، بل وحين ينظرون يمينا ويسار سيرون انها تتسع لاكثر من أبنائها اي انها تتسع للعرب والمسلمين والمسيحيين وكل احرار العالم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها