"غيابه الحاضر"، بهذه الكلمات استهل أحمد درويش، حديثه لـ"عرب ٤٨" في الذكرى السادسة لرحيل شقيقه الشاعر الفلسطيني الكبير، محمود درويش، التي حلت في التاسع من آب(أغسطس) الجاري.
يستهل أحمد حديثه مستذكراً سفر شقيقه محمود الأول إلى مدينة صوفيا عام ١٩٦٩، للمشاركة في مؤتمر عالمي للشباب. ويتابع حديثه عن السفر الثاني إلى موسكو في العام ١٩٧٠، ومنها إلى القاهرة، ويقول: "كنا نستعد لاستقباله في المنزل، وكنا ننتظر عودته من موسكو، إذ كان من المفترض أن يصل إلى براغ من موسكو حيث ينتظره الراحل صليبا خميس ليعود معه إلى البلاد، لكن محمود قرر تغيير مساره. فخلال انتظارنا كنا نستمع لإذاعة صوت العرب، وفوجئنا ببيان يقرأه محمود عبر الإذاعة يعلن من خلاله لجوئه إلى مصر".
ويتابع :" كنّا في حالة من البلبلة، لا وسائل تواصل ولم نعلم إن كان من الممكن التواصل معه في مثل هذه الظروف"، ومن ثم يبتسم ويتابع، "مع مرور الوقت، اعتدنا على هذا الوضع الجديد"، مستذكرا قول الشاعر درويش في البيان الذي أذاعه من مصر: "غيّرت موقعي، ولم أغيّر موقفي".
ويتابع أحمد حديثه، فيستذكر اللقاء الأول بشقيقه محمود في باريس. ففي العام ١٩٨٠ التقى أحمد، أخاه الأصغر بعد الخروج من لبنان. وروى: "كان لقاءً في غاية الحميمية، كان اللقاء الأول للأخوة بعد فراق دام ١٢ عاماً"، ويتابع: "لن أنسى هذا اللقاء الذي انتظرته كثيراً”.
الإقامة في حيفا: من شارع عباس لوادي النسناس
يستعيد أحمد ذكريات إقامة درويش في مدينة حيفا، ويقول: "عانى محمود العديد من الإقامات الجبرية، فحتى في فترة الأعياد، لم تسمح له السلطات الإسرائيلية بزيارة أهله. وكنت خلال العيد أنقل له مأكولات وحلويات العيد إلى حيفا. كوني شقيقه البكر، كنت الأقرب إليه من بين أفراد العائلة، زرته أسبوعيا في منزله القائم في حي عبّاس في حيفا”.
ويتابع: “سمح لمحمود بالتنقل في خط شارع عباس - وادي النسناس، لا أكثر. فلم يُسمح له بالتنقل أكثر من ذلك وهذه الحركة كانت مسموحة في ساعات محددة فقط. كنّا نجمع له ما يحتاج في فترة الأعياد، ونذهب لنزوره في حيفا.
ومن ثم أخذ أحمد يستذكر حصار محمود في بيروت، ومن ثم صعوبة التواصل معه والإطمئنان عليه بعد خروج منظمة التحرير من لبنان وبقاءه هناك فيقول: "عند دخول القوات الإسرائيلية إلى لبنان، كان محمود لا يزال هناك، وعندما دخلت قوات الإحتلال لبنان تخفّى محمود وراء جريدة"، ويتابع: "محمود لم يخف الموت يوماً، بل لم يرد أن يتم اعتقاله ولا في أية حالة من الأحوال".
يقول أحمد بأنه وعلى الرغم من أن لقاءه مع محمود درويش، في باريس كان الأول بعد ١٢ عاماً، إلّا أن اللقاء الأهم كان في منزل العائلة، في قرية الجديدة فيقول: "لقاؤنا بمحمود في المنزل هنا، كان اللقاء الأهم، فحينها تعرفنا على محمود الشخصية، عشرات السنين مرت ونحن نعرف محمود عبر وسائل الإعلام، محمود الشاعر الكبير، وبعض الرسائل بين الحين والآخر، لقاؤنا في المنزل كان لقاءنا الأول منذ هجرة محمود، بمحمود الأخ مرة أخرى، بمحمود عن قرب وبأدق تفاصيل حياته"، فيتابع أحمد لـ"عرب ٤٨" قائلاً: "كان محمود ينهض صباحاً، كان يعشق الأناقة فيستحم ويلبس بشكل غاية في الأناقة، ويذهب لزيارة والدتنا القاطنة بجانب بيتي الذي أقام به الشاعر محمود درويش أثناء وجوده في المنزل". ويتابع: "كان يعشق النكات، كان في غاية الذكاء"، ويتابع مبتسماً: "كان محمود خجولاً جداً، وعصبياً جداً في بعض الأحيان، وكان مطالعاً ممتاز".
يتابع أحمد ذكرياته مع أخيه قائلاً: "كان محمود يحب الأناقة في كل شيء، كان يجيد اللغة العبرية جيداً، وكان يومه في غاية الترتيب، فللقراءة وقتها وللاستحمام وقته وللغذاء وقته"، أما بالنسبة للكتابة فيقول أحمد درويش: "كانت الكتابة بالنسبة لمحمود احتفالاً، كان وكأنه يحتفل بما ينتج، كانت الكتابة بالنسبة لمحمود درويش طقوس وحب، فكان يتحضّر لها ويتأنق".
مرض درويش
ويتحدث عن فترة مرض الشاعر درويش بالقول:"هم محمود وغربته كان حاضراً في المنزل، وأكبر الهموم كان مرضه في المهجر وقلق الوالدة عليه وعلى صحته الآخذة بالتدهور". واستذكر أحمد درويش الأيام الأخيرة لمحمود في منزل العائلة، قبل سفره لإجراء عملية في القلب في مدينة تكساس الأمريكية، وتذكّر حينها ما قاله طبيبه الفرنسي له فيقول: "قال له الطبيب، إمّا أن ينفجر الشريان في أية لحظة، وإمّا أن تذهب لهذه المغامرة التي من شأنها أن تنجح، أو تفشل"، ويتابع أحمد قائلاً: "شعرنا أنها مغامرة في غاية الغموض يذهب إليها محمود في ذلك اليوم. دأب محمود في أيامه الأخيرة على زيارة أصدقاءه القدامى، وكلهم كانوا مرضى في المستشفيات". ويتابع أحمد: "اعتدنا أن يودّعنا محمود بحركة يده، وبابتسامة"، ويذكر أحمد ذلك اليوم قائلاً: "سريعاً خرج محمود إلى السيارة ولم يودّعنا كما في كل مرة، بل اكتفى بالغياب، شعرنا بأن شيء ما سيحصل، وشعر محمود به".
ديوان محمود الأخير
وتحدث شقيق الشاعر عن زيارته لمنزل محمود درويش في عمّان بعد وفاته، فقال: "سافرت برفقة أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة الأيام، وصديق درويش علي خليلي، والأديب إلياس خوري، لمنزل محمود القائم في العاصمة الأردنية عمّان" ويتابع: "أنا لم أستطع الوقوف، فجلست على الكرسيّ منهكاً، وأخذ الأصدقاء يبحثون عن ديوان الشاعر في منزله، إلّا أنهم لم يجدوا سوا مسودّة الديوان والتي لم نستطع تحريرها بسبب كثرة التغيرات التي أجراها محمود درويش على المسودّة، فهي مسودة يصعب إخراج الصحيح منها، مسؤوليتنا اتجاه محمود كشاعر كبير أوجبت علينا الإنتظار كي لا نحرّف شيئاً من هذا الديوان الأخير".
يتابع أحمد حديثه: "في صبيحة اليوم التالي رن هاتفي، وكانت مكالمة من محامي أردني، صديق للشاعر محمود درويش يدعى غانم زريقات، فقال لي وهو يعرف محمودا جيداً، محمود في غاية الترتيب، لا يمكن أن يكون قد ترك ديوانه هكذا، علينا البحث من جديد". وتابع: "هذا ما فعلناه، وفعلاً أعدنا البحث وعثرنا على الديوان في درج المكتب الخاص بالشاعر" ومن ثم يقول: "فعلاً، كان الديوان مكتوباً بخط غاية في الجمال والترتيب، ومحفوظ داخل الدرج، وحينها اخترنا أن يكون اسمه، (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي)، ومن ثم حمله الكاتب الياس خوري إلى بيروت بهدف الطباعة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها