بقلم: صقر ابو فخر

خاص/مجلة القدس، قبل ثلاثينسنة بالتمام، وبالتحديد في 16 و17/9/1982، تمكنت مجموعات من الكائنات الذئبية من إهانةالانسانية جمعاء حين ولغت في دماء آلاف الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين الذين كانوايهجعون في بيوتهم البائسة في مخيم شاتيلا الفلسطيني وحي صبرا اللبناني. وعندما استفاقالعالم على هول ما جرى في تلك الليلة الدموية، كان الآلاف ممن نجوا من هذه المذبحةالمروِّعة، يهيمون على وجوههم في الاحياء المجاورة وقد روعتهم مشاهد القتل الهمجي بعدمافقدوا كل شيء: آباءهم وأمهاتهم وأخوتهم وأطفالهم وزوجاتهم وبيوتهم وصور الأحبة وأشياءهمالحميمة وأغراضهم الأليفة، وباتوا في العراء تائهين في صقيع المدينة.

لا أحد يعرف، علىوجه اليقين، مقدار الهلع الذي حلَّ في تلك الليلة الراعبة. فليس للضحايا فمٌ كي يتكلم.أما الناجون فصارت ذاكرتهم موشحة بالكوابيس والأطياف الشجية التي ما برحت تحوم في فضاءالذاكرة المنهكة. ومع ذلك، فقد أراد كثيرون أن يهيلوا ركاماً من النسيان على هذه المذبحة،مثلما أهالوا ركاماً من الأتربة فوق جثامين الضحايا. غير أن استعادتنا اليوم لهذه الذكرىالأليمة ليس إعادة فتح للجروح، وهي كثيرة، بل هي إعادة تذكير للإنسانية المتألمة والانسانيةالمفكرة بأن العدالة مازالت طريدة للسياسة في هذا البلد الموبوء بالسياسين العنصريينالذين ما فتئوا يلومون الضحايا بدلاً من الاقتصاص من المجرمين. وأبعد من ذلك، فإن الفلسطينييناليوم ما عادوا يطلبون القصاص أو الثأر على الاطلاق، بل إن ما يطالبون به هو أن يعترفمن تسبب بهذا العذاب، بالفلسطيني كإنسان يعيش فوق هذه الأرض.

إن تسامح الفلسطينيمع قاتليه هو اقتداء بالفدائي الأول السيد المسيح، ابن الجليل الفلسطيني. لكن تسامحالضحية وحده لا يكفي لمحو العار الذي لحق بالانسانية. ما يكفي، في الحد الأدنى، هواعادة الاعتبار للانسان الفلسطيني الذي يتطلع في كل يوم، الى العودة الى بلاده الاصلية،والى دياره الأولى، أي الى فلسطين. ومع أن هذا التطلع بات كالإيمان لدى الفلسطينيين.إلا أن بعض الجماعات العنصرية تلذذت كثيراً بما جرى في مخيم نهر البارد في سنة2007، وها هي تحلم بتكرار ذلك في مخيمات أخرى كعين الحلوة مثلاً.

يصف جوناثان راندلما حدث في شاتيلا وصبرا كالتالي: " في ليلة الخميس 16/9/1982، وطوال ثمان وأربعينساعة متواصلة، ذبحوا بكل أعصاب باردة الرجال والنساء والأطفال. حتى الخيول والكلابوالقطط... واستخدموا في وحشيتهم القنابل اليدوية والسكاكين والفؤوس والمسدسات والبنادق.قطعوا أثداء النساء، وحفروا صلباناً في الأجساد. بقروا بطون الحوامل. حتى الأطفال قطّعوهمإرباً، ووُجدت أطراف طفل مقطعة وموضوعة حول رأسه" (أنظر: حوناثان راندل،"حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي"، بيروت: 1983).

لم تكن هذه المذبحةبنتُ ساعتها، أو ردة فعل تلقائية على اغتيال بشير الجميل، كما حاول مزيفو الوقائع أنيروّجوه، بل إن جذورها كامنة في الفكر العنصري الذي كانت تعتنقه الجماعات المعاديةللفلسطينيين في لبنان حينذاك. وقد أفصح ألان مينارغ عن مقدمات مذبحة صبرا وشاتيلا كالتالي:"إن قرار إجلاء اللاجئين المدنيين الفلسطينيين بالقوة من مخيمات بيروت وجرف المخيماتاتخذ في زمن بشير جميل". وفي حديث عن المخيمات قال بشير الجميل لشارون:" سنساعدكم في إجلاء الفلسطينيين الى الحدود السورية بحيث نستطيع طردهم الى دمشقحين تتسلم الحكومة اللبنانية الجديدة صلاحيتها(...) سوف يصبح مخيم صبرا في بيروت حديقةالحيوان الوطنية اللبنانية" (ألان مينارغ، "أسرار حرب لبنان"، بيروت:المكتبة الدولية، 2006).

على امتداد أكثرمن يومين تبارى القتلة في تجريب همجيتهم بالفلسطينيين. إحدى الناجيات روت ما رأت فقالت:" كان ابن عمي، وعمره تسعة أشهر يبكي. فعلق أحدهم: ما عدت أطيق صوته، وأطلق النارعلى كتفه. بدأت أبكي، وقلت له: إنه الوحيد الباقي من عائلتي. أخذه وقطعه من فوق رجليهنصفين". أما أحد المسلحين فراح يتباهى بالقول: "بعض النساء اختبأ خلف بعضالحمير ... ولسوء الحظ اضطررنا الى اطلاق النار على هذه الحيوانات المسكينة كي نتمكنمن قتل الفلسطينيين المختبئين خلفها. لقد تأذت مشاعري عند سماع صراخ هذه الحيواناتالجريحة" (ديرشبيغل، 14/20/1983).

أمام هذا الانحطاطالبشري المروِّع إلى ما دون الحيوانية اضطر رفائيل إتيان، رئيس أركان الجيش الاسرائيليآنذاك، الى التملص من مسؤوليته عن هذه الجريمة بالقول: "الكتائبيون دخلوا إلىمخيمات الفلسطينيين لتطهيرها من الإرهابيين، فقتلوا بوحشية من دون تمييز الرجال منالنساء والأطفال والشيوخ... وقتل الأبرياء هو أعظم الجرائم البشرية" ( من رسالةالى الجنود في يوم كيبور – الغفران – 24/9/1982). ولمزيد من التملص لم يخجل مناحيمببغن من التصريح أمام الكنيست بعد المجزرة بالتالي: "في شاتيلا وصبرا ثمة أشخاصغير يهود ذبحوا أشخاصاً غير يهود، فبماذا يعنينا ذلك؟".

سنظل نستعيد رائحةالابرياء الذين قتلوا في ليلة الحراب الدموية تلك ما دام ميزان العدالة لم ينتصب بعدوسنظل نعيد رواية ما حدث في تلك الايام كي لا يصبح الشهداء مجرد ذاكرة للنسيان. أماالتسامح فهو، في جوهره، تسامح النبلاء، ولا يقدم على الغفران والعفو الا ذو مقدرة.وهذا يعني ان على المجرمين واجب الاعتراف اولاً ثم الاعتذار على اقل تقدير، هو الأمرالذي لم يفعلوه حتى بعد ثلاثين سنة على المجزرة. فليس من الغرابة اذاً ان يرفع الفلسطينيونفي كل سنة خمس كلمات فقط صارت شعاراً عالمياً وانسانياً للتضامن مع الشعب الفلسطيني،وهي "كي لا ننسى صبرا وشاتيلا" . وها هي جموع من المناضلين الأمميين يأتونفي كل سنة لاحياء ذكرى صبرا وشاتيلا. إنهم مفكرون ونقابيون وشعراء وكتاب وصحافيون وناشطونوسياسيون من ايطاليا وبلجيكا وفرنسا وأميركا وماليزيا وبريطانيا تجمعوا في اطار اللجنةالعاليمة لذكرى المجزرة التي أسسها المناضل الأممي الراحل ستيفانو كياريني، واتخذوامن عبارة "كي لا ننسى صبرا وشاتيلا" شعاراً لهم. فهل ننسى؟ نغفر... ربمالكن لن ننسى.ر