لم تعلم عائلة "أبو عواد" من بلدة السموع التي لجأت للعيش في بعض الكهوف والأكواخ القريبة مما يسمى بالخط الأخضر -منعاً لامتداد يد الاحتلال لأراضيها ومصادرتها- أن تتحول حياتها الى جحيم بفعل مصانع إسرائيلية أقيمت بالمكان تنشر الأمراض بين المواطنين وتقتل الثروة الحيوانية، كما تساهم في تجفيف المزروعات، واغتيال خصوبة التربة.

خربة مخفية
هذه المشاهد تجدها في خربة "ودادي" التي تقع جنوب شرق بلدة السموع، على الطرف الجنوبي للشارع الاستيطاني ( 317 )، فمن يرغب بتوثيق حجم الانتهاكات البيئية التي تخلفها المصانع الإسرائيلية هناك، عليه أن يسلك طرقاً وعرة عبر مجموعة من التلال للوصول للخربة المخفية، حيث يمنع الزوار من دخولها كونها منطقة عسكرية مغلقة. كما يتعرض المواطنون لسياسة التهجير منذ سنوات، وتنفذ قوات الاحتلال عمليات هدم للخيام وحظائر الأغنام بشكل مستمر.
ويعيش في الخربة أكثر من 70 مواطناً معظمهم من الأطفال، ويعتمد السكان هناك على تربية المواشي والزراعة والرعي، ويشكل صمود هذه العائلات الصخرة التي تتبدد عليها أطماع الاحتلال بمصادرة آلاف الدونمات لصالح الاستيطان في جبال محافظة الخليل.

الموت البطيء
لم تقف حدود معاناة العائلات "بودادي" عند محاولات التهجير المستمرة بل وصلت للقضاء نهائياً على اي مظاهر للحياة العربية بالمنطقة، عبر نشر الموت البطيء بإنشاء مصانع للكيماويات وتكرير الزيوت المعدنية وأخرى لم نتمكن من معرفة طبيعة عملها، حيث تتخلص هذه المصانع من مخلفاتها السائلة والصلبة الخطرة بشكل عشوائي دون الاهتمام بما تخلفه من أخطار بيئية وصحية، فالبراميل المعدنية والبلاستيكية الملوثة بالمواد الكيماوية تملأ الحقول، إضافة الى انتشار عشرات العبوات مجهولة التركيب، ومياه عادمة تجري وسط الأراضي الزراعية تنشر الجفاف أينما حلت، حتى أنها غيرت لون الصخور التي جرت فوقها.

حصار من نوع أخر
المواطن حسام أبو عواد يفيد بأن حياة أهل الخربة أصبحت مرهونة بهذه المصانع التي تبث سمومها على مدار عشر ساعات من العمل المتواصل يوميا، فمن جهة الشمال يحاصر الخربة مصنع للمنظفات والمواد الكيماوية، يتخلص بشكل متعمد من نفاياته السائلة باتجاه حقول القمح والشعير التي يعتمد عليها السكان في توفير الغذاء لأنفسهم وأغنامهم، كما ترمى النفايات الصلبة سيما المواد البلاستيكية أمام الخيام والكهوف بالقرب من السكان وخاصة الأطفال الذين يعبثون بهذه المواد دون معرفة مخاطرها الصحية، وفي كثير من الأحيان يعاني المواطنون هناك من حساسية وطفحٍ جلدي شبه دائم.
ويتابع ابو عواد أن المياه العادمة الناتجة عن هذه المصانع تكبد الأهالي سنوياً نفوق أعداد كبيرة من الأغنام بسبب شربها للمياه العادمة الملوثة، كما يتم العثور يومياً على طيور وحيوانات برية  نفقت على أطراف الخربة.

الوقاية مستحيلة
أما من الجهة الجنوبية للخربة، كما يتابع ابو عواد، فإن المصيبة أشد، حيث يوجد مصنع لتكرير الزيوت المعدنية ينتج عنه دخان كثيف ذو رائحة كريهة يسبب ضيقاً في التنفس واحمراراً في العيون وحكة، ويصاحب هذه الأعراض الغثيان والشعور بالتقيؤ، كما يصاب المواطنون بأعراض الأنفلونزا لأيام  طويلة.
ويؤكد ابو عواد أن عدم وجود أبواب ونوافذ للكهوف والخيام التي يقطن فيها السكان، تجعل طرق الحماية من الدخان صعبة مما يزيد من آثاره السامة عليهم، مشيراً إلى ان المصنع يقوم بالتخلص من المياه العادمة الممزوجة بالزيوت في أراضٍ أخرى بعيدة عن مكان تخلص مصنع الكيماويات من مياهه الملوثة، وكأن هناك مخططاً لتدمير أكبر مساحة من الأراضي الزراعية للمواطنين.

عناصر سامة
"استمرار وجود هؤلاء السكان وممتلكاتهم من أراضي وثروة حيوانية في هذه الظروف يعني تعرضهم للقتل الجماعي" بهذه الكلمات بدأ الدكتور ياسر عيسى المختص بشؤون البيئة حديثه، مشيرا إلى أن وجود عناصر مثل النحاس والكادميوم والكروم والزرنيح والزنك والرصاص في المياه العادمة التي تنتج عن هذه المصانع تسبب إصابة الإنسان بالأمراض المزمنة، وتُفقد الأراضي خصوبتها وتُلوث الهواء والمياه.

ويأتي ذلك بسبب بقاء آثار هذه العناصر السامة لمدة طويلة في التربة، ما يؤدي إلى قتل الكائنات الحية وبالتالي القضاء على خصوبتها وتباعاً ضعف الحياة الزراعية في المنطقة، كما تتسرب هذه العناصر إلى المياه الجوفية مما يؤدي إلى تلويثها، مؤكداً أن اعتماد الأهالي بخربة "ودادي" على جمع مياه الأمطار ونقلها الى الآبار عبر قنوات مكشوفة، يسهل امتزاج العناصر السامة بالمياه مما يزيد من سرعة إصابة الأهالي بالأمراض.

فيما يحتوي الدخان الصادر عن مصنع تكرير الزيوت كما يوضح الدكتور ياسر عيسى على مجموعة من الاكاسيد السامة مثل ثاني أكسيد الكربون، واكاسيد الكبريت والنيتروجين حيث تنتقل الغازات السامة عبر الهواء، فتتفاعل معه وتتحول الى حامض الكبريتيك، ويؤدي استمرار استنشاقه من قبل الانسان الى الإصابة بخلل في الجهاز التنفسي كالحساسية الشديدة والربو والاحتقان، كما يلحق أضراراً بالعينين ويصيب الجلد بأمراض مختلفة إضافةً الى الفشل الكلوي والسرطان.

زاوية حادة
في مكان ليس ببعيد عن خربة "ودادي" يعيش سكان احد أحياء مدينة الخليل تحت رحمة ممارسات مجموعة من المستوطنين الذين يمتلكون مصانع فيما تسمى بمستوطنة "كريات أربع" حيث تغرق كروم العنب بالمياه العادمة وتلقى النفايات الصلبة بجوار المنازل العربية ولا يسمح لطاقم قسم الصحة ببلدية الخليل الوصول للمكان لتنظيفه، مما حول الحي الى مكب للنفايات بمواصفات استيطانية.

وهنا لا بد من الاشارة إلى أن ممارسات الاحتلال لم تقتصر على مصادرة الاراضي الفلسطينية لإقامة هذه المصانع، بل دفعت بمخلفاتها الخطرة تجاه السكان وأراضيهم الزراعية لقتل الإنسان وتدمير بيئته، فإلى متى؟؟