ما تعيشه سوريا اليوم كنموذج عربي هو انعكاس لتعقيدات داخلية مجتمعية وإقليمية ودولية ليست وليدة الساعة. فمن جهة، ترك النظام الوراثي للأسد الأب والأبن إرثًا ثقيلاً من القمع والفساد والانغلاق السياسي في ظروف عربية معقدة لم يترك الاستعمار فيها مجالاً للاستقرار على مدى قرن من الزمن حتى اليوم، فَسادَ الظلم فيها وكما في غيرها من الدول العربية وانعدمت العدالة بمساهمة منا نحن حتى أوصلنا أنفسنا لما نحن عليه من حال اليوم دون اي سعي لمواجهة ذلك بشكل جاد لغياب رؤية أو إرادة، تعرض أصحابها في حال وجودها إلى الظلم ودفع الثمن فكانوا نموذج تجربة قاسية في بلاد العرب التي يفترض أن تكون أوطاننا.
ومن جهة أخرى، فقد استغلت قوى ما تسمي نفسها بالإسلام السياسي هذا الفراغ بنتيجة واقع هذه الأنظمة وممارساتها لتقديم نفسها كبديل يقود "ثورة تصحيح" بينما كانت هي الأخرى في الواقع أداة لتحقيق أجندات خارجية قد مارست ما هو أبشع من ذلك عبر تاريخها وتراثها ومفاهيمها التي لا تقبل الآخر وتعمل بقوة الشد العكسي الحضاري والاجتماعية.
وعلى الصعيد الأوسع، فإن ما يحدث في سوريا كنموذج ليس منعزلاً عن سياق طبيعة المجتمعات العربية التي عانت وما زالت تعاني من دور تفسيرات الدين والمتاجرة به وغياب الديمقراطية والتعددية والتراجع السياسي، إضافة إلى ما ساهم به تراجع دور الأحزاب القومية النهضوية واليسارية والتقدمية التي تركت ولاعتبارات مختلفة الساحة فارغة أمام صعود الإسلاموية السياسية في مجتمعاتنا، والتي تعمل وفق مشروع عالمي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين. هذا المشروع الذي بدأ بخدمة الاستعمار البريطاني، بات اليوم أداة أميركية لتعزيز الهيمنة في المنطقة وفرض التقسيمات الجيوسياسية التي خطط لها منذ سبعينات القرن الماضي ولاحقا بعد التحولات بالنظام العالمي تخدم اهداف مصالحها ورؤيتها الإستراتيجية في خدمة الحركة الصهيونية العالمية وتحالفاتها.
- إرث نظام الأسد الأب والأبن، قمع الحوار والتعددية
رغم أن ما يجري اليوم بالمنطقة هو ليس بمسؤولية مطلقة لنظام الأسد كما يحاول البعض أن يعيش الوهم لتعويم المسؤولية والتهرب منها. إلا أنه ومنذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه في حزب البعث العربي الاشتراكي، حوّل النظام مؤسسات الدولة إلى أدوات لخدمة مصالحه الضيقة، وقضى على أي تعددية سياسية، مما ترك سوريا في حالة من الجمود السياسي كما ترك غيرها من الدول العربية في أنظمة عربية مماثلة ذات حكم الحزب الشمولي الواحد أو الديكتاتوري العسكري. ورغم الشعارات الواسعة لتلك الأنظمة القومية، فقد أدت سياساتها إلى تدهور الدولة وتفككها، مما مهد الطريق أمام قوى الغرب الخارجية والجماعات المتطرفة الظلامية للعبث بمستقبل سوريا والعراق ومصر ولبنان وليبيا والسودان وفلسطين وغيرهم.
فأصبح إرث تلك النظم السياسية أحد أسباب الانهيار الحالي الذي نشهده هذه الأيام. فقد فشل في حماية الدولة، بل أسهمت سياسات تلك الأنظمة في وصول الدبابات الإسرائيلية اليوم على بعد بضعة كيلومترات من دمشق أو حولها وشن هجمات جوية غير مسبوقة على كل الاراضي السورية دون ان تدفع ثمنًا لذلك.
- صعود الإسلاموية السياسية، مشروع خارجي بأدوات محلية او عابرة للدول
غياب المشروع الوطني الديمقراطي في سوريا والدول العربية الأخرى والمنطقة فتح الباب أمام الإسلاموية السياسية لتظهر كبديل. هذه الحركات، رغم افتراض كونها جزءًا من النسيج الاجتماعي العربي، تعمل بمنطق عالمي تابع لجماعة الإخوان المسلمين دون رؤى وطنية، كانت قد اتضحت معالم مهمتها مع مشروع ما سمي بالربيع العربي آنذاك الذي ما زلنا نشهد تداعياته على امننا واستقرارنا.
وبالاعتماد على الفكر التكفيري والدعم الخارجي، فقد استقدمت هذه الحركات مقاتلين مرتزقة أجانب من القوقاز، الباكستان، أفغانستان، جمهوريات روسيا، وتركيا، مما عزز صورتها كمشروع عابر للحدود يفتقر إلى الرؤية الوطنية بل وإلى إفشال الحركات الوطنية العربية.
واليوم إذا أرادت هذه الحركات أن تكون جزءًا من الحل، فعليها أن تتوقف عن كونها جزء من المشكلة المتصاعدة وأن تتبنى خطاب وطني يعترف بالتعددية وقبول الآخر وبالقيم الديمقراطية وطبيعة الدولة المدنية، والعمل من أجل المصلحة الوطنية للمجتمع والدولة لكي تكون فعلاً جزء من النسيج الاجتماعي، الأمر الذي أشك بحدوثه.
- أزمة الأحزاب القومية واليسارية والشيوعية، دروس من الماضي
لعبت الأحزاب القومية النهضوية واليسارية والشيوعية دورًا مهمًا في معارك الاستقلال الوطني والحداثة ولاحقًا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وساهمت في نهوض العمل الوطني العربي والتنوير الثقافي ومواجهة مشاريع الاستعمار، لكنها تراجعت إلى حد كبير بفعل أخطاء استراتيجية في معالجة الواقع العربي ومن خلال تغييبها لمفهوم المشروع القومي في مواجهة مشاريع أخرى بالمنطقة، وفي تغليب الأممي على القضايا الوطنية، الأمر الذي أضعف مكانتها ودورها الطليعي المفترض في مجتمعاتنا العربية التي فُرض عليها ثقافة التخلف والالحاق.
هذا الفراغ في الساحة السياسية العربية ترك المجال مفتوحًا أمام الإسلاموية السياسية لتقديم نفسها كبديل، رغم افتقارها إلى مشروع وطني حقيقي، واعتمادها على أجندات خارجية كانت ترى فيها وما زالت قندهار وكابول بأهمية أكبر من القدس.
- التدخلات الخارجية وإسرائيل
مع تفكك الدولة السورية وقبلها العراق وليبيا وغيرها من الدول، لم تتأخر إسرائيل في استغلال الفراغ ولعب دور اللاعب الأساسي ضمن حجارة شطرنج المنطقة، فباتت هي من يشكل واقع استراتيجيات المنطقة الجيوسياسي لفرض هيمنتها الاقتصادية والعسكرية على المنطقة بالشراكة والدعم الأميركي المطلق.
- نحو مشروع وطني ديمقراطي بديل
إن مستقبل منطقتنا بأهمية مكانتها الجيوسياسية بكل المعايير للعالم يضعها في مهب رياح محاولات السيطرة عليها وتطويعها، الأمر الذي يتطلب إنشاء تيار وطني ديمقراطي تقدمي واسع لا تهم التسميات بشأنه، يعمل على منع أفغنتها أو صوملتها، تيار واسع يجمع القوى المختلفة عابرة للدول العربية بما فيها وطننا فلسطين على أسس وطنية بمنهج ديمقراطي، ليكون بديلاً عن استبداد الأنظمة الديكتاتورية في محتواها أو الإسلاموية السياسية في مخاطرها.
هذا التيار لا يجب أن تقتصر مهامه ورؤيته على العمل من أجل الحريات والتعددية السياسية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية والدولة المدنية على أهمية ذلك، بل لوضع رؤية تقترن ببرنامج وأدوات عمل من أجل هزيمة المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي يسعى لفرض مشروع "إسرائيل الكبرى" على المنطقة، مستغلاً حالة الانقسام والتفكك وصراع اللاعبين الكبار بالمنطقة.
هذا التيار يجب أن يشكل رافعة حقيقية للحوار المجتمعي والتعددية السياسية والفكرية من خلال برنامج وأدوات غير مستهلكة بهدف الوصول إلى إشاعة القيم الإنسانية ومكانة وقيمة الإنسان العربي كصاحب حق بالحياة في وطن حر والقرار بمستقبله حتى لا تبقى الكتابة فقط هي الوطن الذي نعيش فيه أحرارًا.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها