بقلم: عبد الباسط خلف

بكت جنين المحاصرة ليومها الثاني المؤذن علي صالح حسين (أبو ماهر)، الذي رحل صباح أمس الأربعاء، بعد أن رفع نداء السماء أكثر من 70 عامًا في مسجدها الكبير.

ولم يفارق صوت شيخ المؤذنين، كما يطلق عليه الأهالي، مآذن المدينة حتى أواخر العام الماضي، فظلت تسجيلاته وموشحاته الرمضانية وتكبيرات العيد تصدح في نواحي جنين وضواحيها لشيخ تسعيني.

وقال المؤذن قبل وفاته: إنه "بدأ متطوعًا في رفع الأذان من فوق مئذنة مسجد جنين الكبير، مطلع الخمسينيات، ووقتها كان يصعد 86 درجة توصله إلى أعلى المئذنة خمس مرات يوميًا".

وسرد أبو ماهر بتجاعيد وجهه العميقة وكوفيته الحمراء بداياته في تموز 1953، عندما عين في وزارة الأوقاف، فرفع رسميًا أذان الظهر أول مرة، واستمر في الصعود إلى أعلى المئذنة 3 سنوات، إلى أن أحضروا له جهازًا كهربائيًا وقالوا له إنه يكبر الصوت ويوصله لبعيد، فاستغرب أول مرة.

وأبصر حسين النور في زرعين المدمرة عام 1929، وتعلم حتى الرابع الابتدائي، وجالس شيوخ بلدته، وبدأ يتنافس وبعض رفاقه لاكتشاف صاحب الحنجرة الأفضل في قراءة القرآن ورفع الأذان في زرعين، التي كانت تابعة لجنين قبل خسارتها عام النكبة.

وقال: إنه "هاجر مع عائلته إلى جنين بعد النكبة، وعمل في شبابه موظفًا في محل تجاري، قبل أن يعين رسميًا في المسجد الذي بنته فاطمة خاتون عام 974 هجري 1566 ميلادي".

 - 3 دنانير

كان الراتب الأول الذي حصل عليه أبو ماهر 3 دنانير، وكان يضيف إلى دخله من أعمال التجارة مبلغًا مماثلاً، واستمر الحال على ما هو عليه حتى عام 1967، حينما صار يتقاضى 9 دنانير بالتمام والكمال، إلى أن وصل دخله إلى 285 دينارًا في آخر سنوات عمله.

ووفق الراوي، كانت الدنانير أيام زمان تتكلم، فمثلاً كان مهر العروس أقل من 50 دينارًا، ودونم الأرض أقل من 10 دنانير، لكن البذلة الرسمية كانت بـ 12 دينارًا.

وسرد: كنت أرفع أذان الظهر وأذهب إلى نابلس لمزاولة العمل، وأعود لرفع أذان العصر، أو ينوب عني زميلي في حالات استثنائية.

- "طبلاوي" جنين

وتابع مبتسمًا: كان صوتي مرتفعًا، لدرجة أن الفلاحين في مرج ابن عامر ومنطقة خروبة كانوا يوقتون انتهاء عملهم في الحصاد بسماع أذان الظهر، فيما يبدأ العاملون في السقاية والري نهارهم حينما يلتقطون أذان الفجر.

استطاع "شيخ المؤذنين" تأسيس طبقة صوتية خاصة به، فلم يغيرها ولم يعمد إلى تقليد ما يسمعه من مؤذنين كبار انتشروا في الفترات الماضية كالشيخ عبد الباسط والمنشاوي، لكن من اعتاد على سماعه كان يقول له: "صوتك يشبه إلى حد كبير نبرة الشيخ المصري الراحل محمد الطبلاوي".

وحسب المؤذن الراحل، فقد تغير أئمة المسجد كثيرًا وبقي هو، فعمل مع المفتي الشيخ أديب الخالدي، والشيخ محمد خير، والشيخ محمود البول، والمفتي توفيق جرار رحمهم الله، والشيخ عمر غانم، مثلما رحل المؤذنون القدامى كالشيخين شحادة وحسن.

كما حرص على تناول الشاي والزنجبيل والميرمية والنعناع، ولم يصب بالبحة إلا في حالات نادرة جدًا، كانت ترافقه مع الزكام.

أمضى الشيخ قرابة 20 عامًا، وهو يرفع التسابيح بصوته قبل أن يحين الموعد الشرعي للأذان، إلى أن أدخلت المسجلات والكاسيتات مستهل عام 1975. وأفاد بأن مواطنة من عائلة أرشيد أحضرت له 20 أسطوانة جلبتها من مصر، واستخدمها فترة طويلة، حتى انتهى موديلها.

وقال إن أذانه كان يمتد بين ثلاث وخمس دقائق، ورفع أيضًا الأذان في عمان وإربد والسعودية وبعض بلدات جنين.

- ذكريات وتطوع

وتبعًا لأبي ماهر ففي عام 1995 ارتبطت مساجد جنين كلها بشبكة الأذان الموحد، ولم يتوقف عن رفع الأذان، حتى خلال أيام منع التجول في الانتفاضة الأولى والاجتياحات الإسرائيلية في الانتفاضة الثانية، إلا أنه تعرض للخطر خلال عام 2002، عندما كان يتنقل بين الدبابات وجنود الاحتلال ومنع التجول، وأصيب برصاصة في أنفه، لكن صوته كان مصدر طمأنينة لسامعيه خلال الأوقات العصيبة التي شهدتها المدينة.

وتقاسم الراحل أوقات الأذان (إضافة إلى الفجر الأول) مع زميله، فاختار أذان الفجر الأول والظهر والعصر. ولم يكن يسهر كثيرًا، حرص على النوم باكرًا وبخاصة أيام الصيف، إذ تنتهي صلاة العشاء في حدود التاسعة، وعليه أن يعود لرفع أذان الفجر الأول حوالي الثانية، ولهذا فالساعة المنبه ترافقه دائمًا.

تزوج الشيخ علي عام 1955، وهو أب لخمسة أولاد وأربع بنات، ونجله الأكبر مهندس كيميائي، وأبناؤه مازن وخالد وأسامة ومحمد يحملون درجات الدكتوراة والماجستير في الاقتصاد وإدارة الأعمال وعلوم السياسة.

تقاعد أبو ماهر عام 2005، لكنه استمر في التطوع، فحرص كل يوم جمعة على رفع أذان الفجر الأول، وتساعده سيارة على الوصول من بيته البعيد نسبيًا، بفعل أوجاع ركبتيه. ويأتي في أوقات كثيرة ليصدح بصوته في أرجاء المدينة، وبخاصة وقت الظهر، وظل يتطوع بانتظام حتى عام 2015، ثم صار يتطوع بشكل متقطع حتى 2018، وبقيت تسجيلات صوته لغاية 2023.

وتذكر أيام رمضان العتيقة، يوم كان الشبان ينتظرون صعوده إلى أعلى المئذنة، أو إشعال إنارتها، لتناول إفطارهم، ولا يغفل عن ذكر مواسم الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، والإسراء والمعراج، عندما كان ينشد بصوته ويقرأ التسابيح، ويتحلق حوله الأطفال، وتوزع الحلوى عليهم. لم يغب أبو ماهر عن مهنته، سوى للسفر لأداء فريضة الحج والعمرة لمرتين، واحدة عنه والأخرى عن روح والده، ولم يسرف في استنفاد إجازاته السنوية.

ولم يصب بأمراض، إلا أن صحته تراجعت قبل وفاته بوقت قصير، وتناقصت رغبته بالطعام، لكنه بقي يتمنى رفع الأذان والوصول إلى المسجد الذي له ذكريات معه عمرها أكثر من سبعة عقود.

بدوره ذكر ابنه خالد إن العائلة لم تستطع تشييع جثمانه من المسجد الذي أمضى فيه أكثر من 70 عامًا؛ بسبب الاقتحام المتواصل وأجلت ذلك.

وأضاف: أن والده عاد إلى زرعين بعد 73 عامًا من تهجيره منها وشرب من عين الميتة، ورفع الأذان بجوارها، تمامًا كما فعل أول مرة في قريته المدمرة، وكرر ذلك بعد 7 عقود.

ووفق خالد، فإن الأب تعرض للاعتداء عام 1985، عندما كان الاحتلال يلاحق أحد أولاده، ووقتها اعتاد الاحتلال توقيفه اليومي طوال النهار لفترة طويلة للضغط على نجله، الذي اعتقل بعدها وحكم عليه 4 سنوات.

وعم الحزن مواقع التواصل الاجتماعي على رحيل المؤذن التسعيني، واصطبغت المنصات الرقمية بصوره ونعيه واستذكار عذوبة صوته وبشاشة وجهه.