أدّت صدمة السابع من أكتوبر إلى إعادة حسابات إسرائيلية في الكثير من المسلمات والمواقف والتوجهات، ليس في الأمور الجارية فحسب، بل في القضايا الاستراتيجية المصيرية أيضًا. فبعد أن كانت غالبية النخب السياسية والأمنية تعارض بشدّة «معاهدة دفاع مشترك» مع الولايات المتحدة، خشية أن تحمل معها تقييدات والتزامات تضر بمقتضيات «الأمن القومي الإسرائيلي»، جاء السابع من أكتوبر، وجرف معه هذا التوجّه، مثلما فعل مع غيره من معتقدات ورؤى ومرتكزات، بدت راسخة على مدى عشرات السنين.
وفي حين حسمت معظم المقالات والدراسات والتحليلات في إسرائيل بأن الضرر الذي ستلحقه معاهدة من هذا النوع بالدولة الصهيونية، يفوق الفوائد الممكنة، انقلبت الصورة بعد ضربة أكتوبر 2023، ونشر سيل من المقالات والأبحاث تحث على عقد «معاهدة دفاع مشترك» بين الدولة الصهيونية والامبراطورية الأميركية، كجزء من إعادة الحسابات الأمنية - السياسية في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر، وما نتج عنها من قناعات بارتفاع منسوب الخطر الوجودي، وانخفاض منسوب قدرة إسرائيل على «الدفاع عن نفسها بنفسها».
- الاعتبارات الأميركية
على مر عشرات السنين من علاقة الولايات المتحدة بالدولة الصهيونية، طرح ثلاثة من الرؤساء الأميركيين فكرة «معاهدة الدفاع المشترك». جاء ذلك في سياقات مختلفة، فقد طرحها بيل كلينتون في حينه، لتسهيل قبول «الحل السلمي»، وطمأنه القيادة والشعب في إسرائيل وتبديد المخاوف الأمنية، المرتبطة بما طُرح من انسحابات من الضفة الغربية والجولان. أمّا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فقد دعا إليها، وكعادته، في تغريدة نشرها في 14 سبتمبر 2019، عشية الانتخابات الإسرائيلية، وجاء فيها: هاتفت اليوم رئيس الوزراء نتنياهو لبحث إمكانية السير نحو «معاهدة دفاع متبادلة» بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لترسيخ تحالفنا العظيم». وجاء اقتراح ترامب في سياق الإمعان في دعم اليمين الإسرائيلي، وتلقّفه نتنياهو واستعمله في دعايته الانتخابية، ما أثار معارضة شديدة وضجة كبرى في حينه. الرئيس الأمريكي الثالث، الذي طرح الفكرة، هو جو بايدن، بداية في سياق مسعى اتفاق مع المملكة العربية السعودية، يشمل تطبيعا مع إسرائيل ومعاهدتي دفاع مشترك مع كلا البلدين، كلا على حدة. وطرح الموضوع لاحقا بعد السابع من أكتوبر، خلال زيارة بايدن، وخلال الاتصالات المكثفة الأمريكية الإسرائيلية في معمعان الحرب على غزة وارتداداتها الإقليمية. ليس واضحا مدى استعداد الإدارة الأميركية للتوصل إلى معاهدة دفاع مشترك مع إسرائيل، عشية الانتخابات الرئاسية. كلا المرشحين، ترامب وبايدن، عبّرا عن دعمها للفكرة، وهي ـ كما يبدو- ليست موضع خلاف بينهما، ما يزيد من احتمالاتها في مرحلة ما.
لقد عقدت الولايات المتحدة معاهدات دفاع مشترك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. بدأ ذلك بتأسيس حلف الناتو عام 1949، الذي توسّع لاحقا ليشمل 31 دولة اليوم. بعدها تباعا وقعت معاهدات دفاعية مع الفلبين وأستراليا ونيوزلندا وكوريا الجنوبية، وآخرها مع اليابان عام 1960. ومنذ ذلك الحين لم توقّع الولايات المتحدة اتفاقية دفاع مشترك مع أي دولة، والميل الطبيعي في واشنطن هو الامتناع لا الاتساع في هذا المجال، ولكن إسرائيل تبقى في الغالب «حالة خاصة» وقواعد التعامل معها أميركيًا لا تخضع بالضرورة للمبادئ العامة للسياسة الخارجية الأميركية، بل أكثر تأثّرًا بالاعتبارات الداخلية، مثل اللوبي الصهيوني والكتل الانتخابية الداعمة للدولة الصهيونية. تبدي بعض الأوساط الإسرائيلية خشيتها من ألّا تقبل الولايات المتحدة توقيع اتفاق دفاع مع إسرائيل، لعدم اتساقه مع مصالح أمريكية مهمة. لقد وقعت اتفاقيات الدفاع المشترك الأميركية السابقة في سياق الحرب الباردة، وعكست مصلحة أميركية كبرى، وهي ليست موجودة اليوم بالوزن والحدة نفسيهما. كما أن اتفاقًا جديدًا سيفتح الباب أمام دول أخرى للمطالبة بمثله، إضافة لذلك، وعلى خلاف الدول الأخرى التي وقعت معها الولايات المتحدة اتفاقيات دفاعية، فإنّ إسرائيل دولة متورّطة في مواجهات عسكرية لا تتوقف، وليس هناك مصلحة أميركية بالانجرار أوتوماتيكيًا للحروب الإسرائيلية.
وما تخشاه الولايات المتحدة أيضا هو رد الفعل الصيني والروسي، واحتمال زيادة دعم البلدين لإيران وتوسيع تدخلهما في المنطقة. والأخطر هو أن إسرائيل سترى في معاهدة مع الولايات المتحدة ضمانة للقيام بمغامرات عسكرية متنوّعة، دون الخشية من حرب شاملة، في ظل الردع الأميركي الحاضر سلفًا. وهناك أيضًا علامة استفهام كبرى حول كيف سيجري التعامل مع الأسلحة النووية الإسرائيلية، في إطار معاهدة الدفاع المقترحة؟ وهل ستكسر الولايات المتحدة موقفها الرسمي بخصوص منع انتشار السلاح النووي.
في إسرائيل خفّت كثيرًا المعارضة لمعاهدة الدفاع المشترك، بعد أن أدركت النخب الأمنية والسياسية أن الدولة الصهيونية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لوحدها
من الناحية العملية، تصرفت الولايات المتحدة بعد السابع من أكتوبر وكأن هناك معاهدة دفاع مشترك، فزوّدت إسرائيل بما يلزمها وأكثر من أسلحة وذخائر ومعدات، وأخذت على عاتقها الدائرة الثانية من الحرب، التي تشمل اليمن وإيران والعراق والمجال البحري. وجرى وضع الأسس لهذا التحرك الأمريكي بعد نقل إسرائيل، عام 2021، من إطار المنطقة العسكرية الأميركية في أوروبا «يوروكوم»، إلى المنطقة الوسطى «سنتكوم»، التي تشمل معظم الدول العربية، بعد اقتناع القيادة العسكرية الأميركية، بأنه لم تعد هناك قطيعة بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية، وأن ثمة أساسًا «متيناً» للتعاون بينها. وفي الحقيقة فإن التعاون العسكري الإسرائيلي- العربي على أشدّه! كما ثبت في التصدي الأميركي العربي للهجوم الإيراني على إسرائيل في 14 أبريل الماضي.
- اعتبارات إسرائيل
ما كانت معاهدة دفاع مشترك لتلزم الولايات المتحدة بأكثر مما فعلت إلى الآن. لكن الخشية الإسرائيلية، التي تدفع نحو معاهدة رسمية، تنبع من إدراك قوي من جهة بأن التهديدات على الدولة الصهيونية تزايدت وزنًا وجدية، وأضحت خطرًا وجوديا ومصيريًا داهمًا، لا تستطيع الدولة الصهيونية صدّه لوحدها، ومن جهة أخرى أن الموقف الأميركي لم يعد مضمونًا على المدى البعيد، خاصة في ضوء المعارضة المتنامية للدعم الأعمى لإسرائيل في صفوف الحزب الديمقراطي. لقد طرحت فكرة «معاهدة دفاع مشترك» أمريكية – اسرائيلية في مطلع الخمسينيات، وتردد بن غوريون بشأنها، في حين أيدها آبا إيبان وموشيه شاريت. وقد ناقشت حكومة بن غوريون مسألة مشاركة قوات إسرائيلية للقتال في الحرب الكورية، واتخذ في النهاية قرار بعدم المشاركة والاكتفاء بإرسال شحنات من عصير البرتقال «الإسرائيلي» (المزدوجين هنا، لأنّه في الحقيقة برتقال يافا الفلسطيني).
على مدى عشرات السنين عارضت قيادات الجيش الإسرائيلي «معاهدة دفاع مشترك» مع الولايات المتحدة لسبب رئيسي واحد ولعدة أسباب ثانوية. السبب الأساس للمعارضة هو أن اتفاقية من هذا النوع ستضع قيودًا على «حرية» العمل العسكري الإسرائيلي، وتخضعها لتنسيق مسبق مع الولايات المتحدة. ومن الأسباب الأخرى مبدأ بن غوريون القائم على أن «إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها» وليست بحاجة لجنود من الخارج، وكذلك الإبقاء على الضبابية النووية، إضافة إلى عدم استفزاز روسيا والصين زيادة عن اللزوم، وعلاوة عليه الامتناع عن التزام بمشاركة جنود إسرائيليين في الحروب الأميركية. لقد زادت في الأشهر الأخيرة احتمالية التوقيع على «معاهدة دفاع مشترك» أميركية ـ إسرائيلية، خاصة أن كلا المرشحين للرئاسة في الولايات المتحدة، أبديا في الماضي دعمهما لها. وفي إسرائيل خفّت كثيرًا المعارضة لمثل هذه المعاهدة، بعد أن أدركت النخب الأمنية والسياسية أن الدولة الصهيونية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لوحدها وهي بحاجة لسند أميركي قوي، وحتى إلى مشاركة فعلية في العمليات القتالية، كما حدث خلال الهجوم الإيراني وفي العدوان الأميركي على اليمن.
من الوارد أن تطرح قضية "معاهدة الدفاع المشترك" بين الدولة الصهيونية والامبراطورية الأميركية، بطلب إسرائيلي أو بعرض أميركي أو كليهما، في إطار التوصّل إلى صفقة إنهاء الحرب على غزة، وعلى لبنان، خاصة في ظل تزايد القناعة الإسرائيلية بأنها ستردع من يفكر ويخطط لتوجيه ضربة استراتيجية لإسرائيل. معاهدة الدفاع المشترك هي اتفاق يلتزم فيه طرفان (أو أكثر) بالدفاع عن بعضهما بعضا وبالتنسيق السابق للحروب. سابقا، صرح نتنياهو بأنه بالإمكان التوصل إلى معاهدة لا تكبّل أيدي الجيش الإسرائيلي، ولا تشمل التزاما بالمشاركة في الحروب الأميركية. وإسرائيل تريد عمليًا أن تدافع عنها الولايات المتحدة، إن هي هاجمت أو هوجمت، في حين تكتفي هي بإرسال شحنات عصير البرتقال إلى القوات الأميركية المحاربة في أي بقعة في العالم. هل تقبل الولايات المتحدة بعقد معاهدة دفاعية مع إسرائيل المتورّطة في حروب لا تنتهي؟ هل تقبل بالشروط الإسرائيلية؟ المنطق السليم يقول لا، لكن العلاقة الأميركية الإسرائيلية لها منطقها الخاص والحصري والدموي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها