يامن نوباني

مع احتلال يعتبر ابتسامة الأسير أو نظرته غير المنكسرة "فعل تحدٍ" يستلزم العقاب، لا يُستغرب إيداع أسير لعدة أيام وربما أسابيع في زنزانة انفرادية بعد القبض على آلة موسيقية بدائية "عود أو كمان" في الغرفة.

ليس العود سلاحا، ولا بأي حال من الأحوال يمكنه أن يطلق النار، لكنه "الاحتلال" الذي يحارب حتى نفس الفلسطيني، يريد ليس فقط سجن الجسد، إنما أيضا سجن لحظات الهدوء والصفاء، سجن النغمة الموسيقية التي تحرر جدران غرف الأقسام وأسوار السجن من إسمنتيته الخرساء القاتلة، وتعطي هذا الفضاء المغلق تماما، حتى أنه يحجب الشمس بشكل شبه كلي، عن آلاف يحتاجون إليها ساعات باليوم، بينما يعطيهم مدة ساعتين محاطتين بأدق وأحدث تكنولوجيا المراقبة، تعطيه فسحة رقيقة مخطوفة، لا تتجاوز دقائق معدودة، بسرية تامة وبهمس، حتى لا يسمع السجان صوت أوتار موسيقية، فترن في أذنه "الحرب" على الأسير الأعزل، إلا من أصابع تنشد الحياة والحرية.

في أواسط الثمانينيات، ما بين عامي 1984-1985، صنع الفنان الراحل عوني الخروبي من قطاع غزة، آلة "الكمان" خلال فترة اعتقاله في سجون عسقلان ونفحة وغزة، فيما كانت إدارات تلك السجون تعاقبه بزجه في الزنازين كلما ألقت القبض على آلة موسيقية بدائية كان يصنعها من التمديدات الكهربائية وطاولات الزهر.

وبحسب الباحث رأفت حمدونة في دراسته "الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة في الفترة ما بين 1985 إلى 2015"، فإن إدارة السجون بعد عدة مطالبات بإدخال آلات موسيقية إلى السجون سمحت بإدخال "الكمان" إلى سجن غزة، وآلة "العود" إلى سجن نفحة، حيث قام الخروبي بتعليم الأسرى العزف، وتلحين أشعار الأسرى التي كتبوها داخل المعتقلات، وتم ترديدها في المناسبات الوطنية داخل السجون وخارجها.

لكن هذا لا يعني أن السجون كانت نزهة وأن الأسير كان "مدللاً" إنما هي فترة اعتقالية شهدت إضرابات جماعية قاسية أجبرت إدارة السجون على الاستجابة لعدد من مطالب الأسرى، التي سرعان ما كان يتم سحبها نهائياً، إضافة إلى أن الحالة السياسية والأمنية كانت تمر بمرحلة هدوء نسبي، قبل أن تندلع الانتفاضة الأولى في التاسع من كانون الأول 1987، لتتحول كل فلسطين إلى مواجهة عنيفة، حولت معها السجون ومراكز التحقيق إلى مسالخ بشرية – وهي هكذا كانت في بدايات احتلال 1967 ومرحلة السبعينيات- أدت إلى ارتقاء عدد من الشهداء الأسرى بفعل التعذيب، وأضافت إلى أجساد المئات منهم الأمراض المزمنة والأوجاع الطويلة.

لذا، فإن فسحة الأسرى التي اخترعوها من أبسط الأشياء والتفاصيل، كصنع الأعمال اليدوية من تحف وهدايا وبراويز، كانت نتاج إصرارهم على الحياة، لا "منة" من السجان، الذي على العكس تماما، كان يستولي عليها ويمنعها.

وفي شهر تموز/ يوليو 2010، كان الموسيقي فداء الشاعر ابن بلدة مجدل شمس، عائدا من باريس حيث يدرس الموسيقى بعد تخرجه من المعهد العالي للموسيقى في دمشق، اعتقلته سلطات الاحتلال في مطار اللد، وحُكم بالسجن ثلاث سنوات.

الأسير الشاعر، تقدم بطلبات لإدخال عوده إلى سجنه، الأمر الذي رفضته إدارة السجن، ليقرر صناعة "عود" مما تيسّر في السجن.

يكتب الشاعر في تدوينته "عن صناعة العود داخل الزنزانة" المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية: "لازمني هذا التحدي، وفي البداية دأبت على تأليف القطع الموسيقية (النوتات)، وكنت أعاين أوزانها في ذهني أو أدندنها كي تستقيم، وأنا أتخيل نفسي ألحنها برفقة العود المُصادر حاليا، والذي انتُزع مني في المطار. وكنت أتخيّل أن هذه النوتات تصرخ جمالا ولحنا وتحطم جدران السجن كي يسمعها الناس صرخة للحرية والأمل، كنت أتخيلها في وجداني، ووجداني محميّ من رقابة السجان ومسمعه. وعند تأليفها راودني الشعور القوي بضرورة سماعها وإسماعها سواء للأسرى كي ينعموا بها أو للسجان كي أقهره".

كانت الخطوة الأولى في السجن هي التفكير أين سنخبئ العود، ثمّ كيف سنجمع المواد التي نحتاج إليها؟ فكانت الخطة أن يكون حجمه صغيرا وغير مكتمل، وأن يكون من السهل تفكيكه وتركيبه.

بعدها، بدأت اقتراحات الرفاق بمواد وبدائل، فالأرز يجري تحويله إلى غراء، وغطاء المعلبات لنشر الخشب، بدأنا بتجميع الخشب من طاولات الشطرنج والزهر. وبدأت ببناء الأساس للعود، الخشب جاهز والهيكل مبنيّ على شكل صندوق مستطيل، ومن الممكن أن نطلق عليه نصف عود. أمّا المرحلة التالية والمصيرية فهي الأوتار، حاولنا في البداية تفكيك سماعات أجهزة الراديو التي يربطها الأسير بجهاز الراديو وبأذنيه كي لا يخرج الصوت ولا يزعج غيره، وقمنا باستخدام أسلاك السماعات التي حصلنا عليها وتجريدها من الطبقة العازلة، أملا في أن تكون بديلا من الأوتار، لكنها لم تكن ملائمة.

في الزيارة التالية لوالدة الشاعر وشقيقته، تأتيان له ببيجامة وقد وضعتا الأوتار داخل زنار (رباط) البيجامة، ليستكمل عوده.

ويتابع الشاعر في تدوينته: "وبعد مدة، يتم نقل أسير من قسم آخر إلى قسمنا، كان الأسير هو وليد دقة، وبعد بضعة أيام من دخوله القسم والتعارف وتبادل الأحاديث، وبعد أن عرف أثناء حديثنا أنني موسيقي وأنني قمت بمساعدة زملائي ورفاقي في صناعة عود داخل السجن، بدأ يحضّر لي مجموعة من قصائده عل إحداها تصلح لتلحينها أغنية. وفعلا، بعد أن قرأتها وجدت أنها تنفع أن تكون مسرحية غنائية، وبدأنا العمل عليها، وصادف لحسن حظنا وجود الأسير أمير مخول معنا ليشرف على تنقيح النص وإعداده بالشكل الصحيح".

أثناء العمل على مشاهد المسرحية الغنائية، بدأت أجد صعوبة في مساحة التأليف الموسيقي، وذلك لعدم قدرتي على سماع ما أكتب والتأكد منه رغم وجود العود غير المتكامل، وهنا بدأت فكرة القيام بصناعة عود جديد متكامل، لكن هذا قد يكلفنا انكشاف الأمر أمام الإدارة، فأخذ وليد على عاتقه المسؤولية في حال انكشاف الأمر، وهنا انتقلت إلى الغرفة نفسها التي يقيم بها، وبدأنا بصناعة العود الجديد المتكامل، وبدأت الأفكار والاختراعات تظهر لإكمال أدواتنا التي احتجنا إليها؛ فمن ملاعق الطهي الخشبية صنعنا مفاتيح، ومن المكنسة الخشبية صنعنا بيت المفاتيح وزند العود، والغراء كان كما في المرة الأولى من الأرز. وكانت مناوبة العمل ومناوبة المراقبة؛ تتوزع الأدوار بيننا نحن الأسرى الثمانية الموجودين داخل الغرفة. وخرج مولودنا الجديد متكاملا وبدأنا إكمال مشروعنا وأصبحنا نعزف ونغني ونحاول جهدنا ألا يُسمع صوت العود خارج الغرفة، ونراقب. وفي أحد الأيام، أحضر لي الأسير أحمد أبو جابر كلمات كان كتبها لحفيده لمناسبة عيد ميلاده وبدأت بتلحينها حتى أصبحت أغنية.

ويختم الشاعر: "كانت لحظات جميلة حتى تم انكشاف أمرنا. قال وليد للسجان إن العود له وتحمّل هو العقاب، لكن السجان لم يصدقه، إذ لا يوجد موسيقي غيري في السجن. وبعد فترة قصيرة، قررت أن أحاول صناعة عود جديد، فطلبت من والدتي أن تحضر لي أوتارا للعود، لكن هذه المرة تم اكتشاف طريقة تهريب الأوتار، وقد عوقبت أنا ووالدي في الزنزانة الانفرادية ليومين، ومُنعت مدة شهر من الزيارات كما مُنعت أختي مدة سنة كاملة من زيارتي".

ويبقى العود باعثا للروح.