طرق وقنوات السياسة دائمًا مفتوحة، حتى في أحلك لحظات الصراع بين القوى المتحاربة، وأيًا كانت درجة العداء بين الحكام والدول. فدائمًا دروب ووسائل أجهزة الأمن مفتوحة مواربة، وإشاراتها الخضراء أو البرتقالية مضاءة، ولا توجد عليها إشارات ضوئية حمراء ألا ما ندر. وكما قالت المقولة: لا يوجد في السياسة عداء ثابت، أو محرمات، وعدو الأمس، ربما يكون صديق اليوم أو الغد، والعكس صحيح.


الرئيس رجب طيب أردوغان مع استلامه الحكم عام 2002مع فريقه الأول: الرئيس السابق عبدالله غُل، ووزير الخارجية الأسبق، احمد دواد اوغلو، وواضع استراتيجية الحكم آنذاك على قاعدة "صفر مشاكل" في الداخل والإقليم، انقلب على النظرية  الناظمة للنظام الجديد، وانفرد بالحكم دون رفيقيه لاحقاً، وفتح أبواب الصراع مع دول الإقليم: سوريا ومصر وليبيا والسعودية والامارات وتونس، وحدث ولا حرج مع اليونان وإيران لبعض الوقت، ومع أوروبا وروسيا والناتو وإسرائيل، عاد مؤخرًا في العامين الماضيين 2021 و 2022، وبعد عقدين من الحكم المتواصل، يلملم أوراقه المتناثرة على مساحة الإقليم وخاصة مع المنظومة العربية الرسمية عشية الانتخابات الرئاسية التركية في حزيران / يونيو القادم، ومع اشتداد الازمة الاقتصادية وزيادة التضخم، وانخفاض قيمة الليرة التركية ونسبة التأييد الشعبي له ولحزبه، وتقلص حدود مناوراته مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء. الامر الذي أملى عليه مراجعة حساباته، والتدقيق في منسوب الأرباح والخسائر من سياسة الحروب المفتوحة، التي لم تحقق له طموحاته وأهدافه.


وكان آخر محاولاته الفاشلة، زيارته المفاجئة لتونس أواسط العام 2019، التي ادلى فيها بمواقف غير إيجابية بشأن تجميد عمل البرلمان التونسي، وحاول امتطاء ظهر النظام الجديد لتوسيع نفوذه شمال أفريقيا، وبعدها حاول الالتفاف على الرئاسة التونسية مع استقباله لرئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، مما أفسد عليه تحقيق أي من أهدافه المرجوة في الملفين التونسي الداخلي، والملف الليبي. مما أوصله لقناعة بضرورة إعادة النظر في سياساته مع الأنظمة العربية.


وكانت أول الاستدارات مع فتح نافذة دولة الامارات العربية، والتي توجت بزيارة الشيخ محمد بن زايد لتركيا في 24 تشرين 2/ نوفمبر 2021، ونجم عن الزيارة نتائج إيجابية على أكثر من مستوى وصعيد سياسيًا واقتصاديًا وماليًا، وأعقب ذلك فتح الأبواب مع الأمير محمد بن سلمان، الذي لبى دعوة اردوغان لزيارة تركيا أواسط العام الماضي 2022، ثم فتح البوابة المصرية في البداية أمنيًا، ثم سياسيًا وتوج بلقائه مع الرئيس السيسي في حفل افتتاح أولمبياد الدوحة في تشرين 1 / أكتوبر الماضي 2022، وعلى صعيد الملف السوري كسر الجمود، وفتح أبواب العلاقات الأمنية بين البلدين، والتي توجت بلقاء وزراء دفاع ورؤساء أجهزة مخابرات البلدين في موسكو برعاية وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو يوم الأربعاء الموافق 28 كانون1/ ديسمبر 2022، والتي سيعقبها لقاء وزيري الخارجية مطلع شباط / فبراير القادم، حسب ما صرح وزير الخأرجية التركي، مولود تشاووش اوغلو، وهو اللقاء التمهيدي للقاء الرئيسين التركي والسوري، حيث تم تقديم إشارات إيجابية على صعيد تحسين العلاقات بين البلدين، وابداء تركيا الاستعداد المبدئي للانسحاب من الأراضي السورية، وهو الشرط الذي طالب به الرئيس بشار الأسد أول أمس الخميس.


ومن اللافت للنظر دخول دولة الامارات على خط تسخين الأجواء الإيجابية بين البلدين، وجاءت زيارة الشيخ عبد الله بن زايد لسوريا يوم الأربعاء الموافق 4كانون 2 / يناير الحالي ولقائه الرئيس بشار الأسد لتعزيز هذا التكهن، فضلاً عن حمل ابن زايد العديد من الرسائل العربية والأميركية والإسرائيلية للاسد الابن. لا سيما وان هذا الانفتاح على سوريا يأتي في الوقت الذي تواصل فيه إدارة بايدن، انها ترفض تطبيع العلاقات مع سوريا، بيد ان هذا الموقف المعلن، لم يحل دون زيارة بن زايد، ولا إعادة فتح أبواب العلاقات التركية السورية، ولا حتى ابداء الاشقاء العرب لاعادة سوريا لحاضنة الجامعة. ولكن لذلك شروط سياسية وديبلوماسية واقتصادية وأمنية، وفي مقدمتها التطبيع المجاني بين سوريا وإسرائيل.


المهم أن الاستدارة التركية الحادة، لم تأت من فراغ، ولا حبًا في الأنظمة العربية، أو تراجعًا عن خيار الاردوغانية في بناء ركائز الخلافة العثمانية الجديدة. وإنما دفاعاً عن مكانة الرئيس أردوغان وحزبه، وللتخفيف من حدة الازمة الاقتصادية، ولاعادة ثقة الشارع التركي بالرئيس وحزبه، وأيضًا استباقا للتحولات الدراماتيكية على المستوى العالمي نتاج تداعيات ما يجري في أوكرانيا، والصراع المتصاعد في شمال شرق آسيا وخاصة مع الصين مع دول الغرب الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، وتكريس مكانة تركيا كقطب أساسي في الإقليم الشرق أوسطي الكبير. لا سيما وأن القيادة التركية تستشعر إن حلف الناتو يتجه نحو الانكفاء والانحلال لاحقًا، ويعتقد أن المعادلات الدولية القائمة تنحو نحو الافول والغياب، وبروز معادلات جديدة ونوعية. وبالتالي الاستدارة وتغيير مساق تدوير الزوايا لم يأت من فراغ.