مع بداية انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في الفاتح من العام 1965، وابتداء مرحلة الكفاح المسلح المنظم انتشر شعار "بالدم نكتب لفلسطين"، شعار أو مقولة أوحت بها تضحيات الفدائيين الفلسطينيين والعرب في ميادين المعارك الحقيقية والنوعية آنذاك وليس الاستثمارية، وللاستغلال في عملية تشكيك وتخوين منظمة لحركة التحرر الوطنية الفلسطينية.
كان المناضل المقاتل (الفدائي) يكتب لفلسطين بأسلوب لا يمكن القول إنه كان جديدًا على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، فأساليب الثورات الشعبية كان سائدًا في فلسطين وفي الأقطار العربية التي وطأتها جيوش المستعمرين، لكن الصورة والمضمون الفكري للثورة من مبادئ وأهداف، وعملية دمج الشعب الفلسطيني أينما وجد في بوتقة العمل الثوري الكفاحي النضالي، وتأسيس ذلك عبر تنظيم حديدي قوي ابتدأ بِمرحلة سرية، ثم خرج للعلن بعد معركة الكرامة في آذار 1968 جعل أسلوب العمليات الفدائية ضد المستعمر الصهيوني الاحتلالي العنصري أينما وجد على أرض وطن الشعب الفلسطيني (فلسطين المحتلة)، في عمقها كما على مواقع الاحتلال على حدودها مع الدول العربية الشقيقة مستحدثًا بعد الاستفادة من التجارب السابقة.
لم نعرف معنى مرحلة الطفولة، وتجاوزنا مراحل الفتوة والمراهقة التي يعيشها عادة الشباب، وكذلك فعل فدائيون سبقونا اختاروا درب العمل من أجل الوطن رغم خطر الموت الكامن عند كل خطوة، وقد كان لنا شرف تلقي دورات عسكرية كافية لأن تجعل العضو في التنظيم جاهزًا لأخذ دور ما في سياق الاستمرار بالثورة وحماية جماهيرها، وما كان لنا أن نكون كذلك لولا همة وعطاء وخبرة مناضلين فدائيين مثقفين كان لهم شرف تهيئة أعضاء أصبحوا روادًا وقادة في ذروة الهرم التنظيمي لحركة التحرير الوطني الفلسطيني وأطرها القيادية، لكن لم يخطر ببالنا أن الذي دربنا قبل خمسين عامًا بالتمام والكمال في معسكر بلدة مصياف التابعة لمحافظة حماة في سوريا الشقيقة سيكون هو نفسه المناضل جهاد صالح مؤلف موسوعة "روّاد النهضة الفكرية والأدبية وأعلامها في فلسطين"، ومؤلف سلسلة "الرواد المقدسيون في الحياة الفكرية والأدبية في فلسطين" خمسون جزءا ضمها إلى الموسوعة التي صدر منها تسعة أجزاء حتى الآن وتؤرخ لرواد النهضة في فلسطين منذ العام 1830 إلى العام 1930، فيما يقدر المؤلف أن تسعة أجزاء أخرى ستكون مشروعه لاستكمال الموسوعة ولكن لفترة من العام 1930 إلى عام النكبة 1948.
المناضل جهاد صالح الذي يعرفه المناضلون القدامى، ويعرفه المثقفون الفلسطينيون والعرب في الوطن وخارجه كتب عشرات آلاف الصفحات ومازال يكتب رغم تسلل الكورونا إلى جسده، له أكثر من ثلاثين مؤلفًا وعنوانًا في مجالات أدبية وتاريخية محورها فلسطين الوطن، والشخصية والهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، كما كتب أبحاثًا ودراسات في الصحف والمجلات المتخصصة الفلسطينية والعربية، ونال جوائز من مؤسسات فلسطينية وعربية وأجنبية تكريمًا وتقديرًا لأعماله التي ترجم بعضها إلى عدد من اللغات الأجنبية.
كما كتب مسلسلات إذاعية وتلفزيونية، منها: "حكايات أبو أحمد" (30 حلقة) لإذاعات منظمة التحرير الفلسطينية: في بيروت، الجزائر، اليمن، في العام 1989 أخرجه خالد مسمار. والمسلسل التلفزيوني "الصرخة" (15 حلقة) أنتجه التلفزيون الأردني بدعم من منظمة الصحة العالمية، والمسلسل الدرامي "الرّواد" أنتجه ويبثه تلفزيون فلسطين (180 حلقة، كل حلقة عشر دقائق).
قد لا يكون يوم ميلاد جهاد صالح صدفة، فالدنيا سمعت صوت أول صرخة في حياته في ذات يوم النكبة الفلسطينية 15 أيار 1948، وأسمع العالم صوت الثائر الفلسطيني كفدائي عندما ولج مدرسة الكفاح المسلح، ويبعث منذ عقود برسائل للعالم، يكتبها بروح المناضل في سلك الثقافة والأدب، وهدفه كما أعلم وباليقين تعزيز الفخر والاعتزاز بالهوية والوطنية، وتثبيت الرواية الفلسطينية في الذاكرة الفردية والجمعية للجمهورين الفلسطيني والعربي، باعتبارها الفعل الوجداني والتأريخي والثقافي المساند لعمليات نقض وتفكيك الخرافة الصهيونية، فالرواد في فلسطين قبل حوالي مئة وخمسين عاما قبل النكبة كانوا بسماتهم وعطائهم ومساهماتهم في تشكيل كينونة الشعب الفلسطيني الحضارية، مثل المعالم الجغرافية والروحية والتاريخية.
الفدائي مناضل، والمناضل بالقلم فدائي أيضًا، ولا غرابة أن يكون المناضل بالقلم هو ذاته الفدائي الفلسطيني الذي أرهص عبر مسارات الثورة والتحرير والتحرر في إرساء قواعد الدولة، ويبقى علينا دائمًا التذكر أن أدب الأسرى دليل آخر على تلازم الكفاحي النضالي والثقافي، ولنا في قادم الأيام هنا وقفة... "فنحن شعب خلقنا من رحم التاريخ، لذلك نكتب بالوفاء له ولا نكتبه"، كما قال السيد الرئيس أبو مازن.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها