حينما تحضر القدس تغيب كل الأشياء وتبدو صغيرة، ويعود للحقيقة وهجها رغم غبار الأحداث الإقليمية والعالمية، فحتى قمة الأرض لم تطغ على القدس، إنها الصوت حينما يراد أن يخيم الإسكات والسكون لصوت الحق، هكذا هي حكاية الانتفاض والصمود حينما يتعلق الأمر بقدس الأرض وقبلة المقدسات الأولى.
تفتح حلقة المواجهات الأخيرة للتمسك بعروبة وفلسطينية القدس أمام محاولات التهويد والتهديد التي تقوم بها سلطات الاحتلال وهجمات وتعديات المستوطنين، مواجهات تعيد التذكير بمحورية القدس في هذا التوقيت الفلسطيني والإقليمي والدولي بِشكلٍ خاص، فمن يطرق أبواب القدس بهدف كسرها يقرع طبول حرب تهز استقرار المنطقة بأكملها، توالي الإجراءات وتصاعد عمليات القمع والتهجير وهدم المساكن، تقوم بتحشيد الاحتقان يومًا بعد يوم على طرفي الخط الأحمر، إنه خط القدس بمكانتها التاريخية ودورها في اكتمال الحلول إذا أُريد لجهود السلام أن تمضي لحل الدولتين، وهي صاعق إعلان مواجهة مفتوحة لها ما قبلها ولها ما بعدها من تداعيات.
الموجة الجديدة من سلسلة موجات المواجهة على بوابات القدس، وساحات الاقصى وصخرة القدس، درس جديد للأعداء والأصدقاء وما بينهما من تصنيف للمواقف والتحالفات، وهذا ليس بالحدث المفاجئ، بقدر ما هو صرخة في وجه الظلم الذي توقع أن أوضاع أهل القدس والفلسطينيين ومن معهم من أصدقاء باتت تحت جبال من الضعف والتراجع، ما يمهد له بسط التهويد وإعلان مشيئته على مصير القدس من طرف واحد، لتكون ردة الفعل وصمود أهل القدس وتمسكهم بقدسية وعروبة مدينة الأمن والإيمان والسلام، أقوى من عربدة المستوطنين مهما استقوت بالجيش وقوات الأمن بكافة تجهيزاتها.
قد تكون حسابات الاحتلال وقادته لأن تكون جولة القدس خطوة لوأد ارتباطها بالمشروع الوطني، وتوقيتها على أبواب الانتخابات مقدمة لإخراجها من خارطة العمل الوطني وتقطع الطريق على مشاركتها في العملية الانتخابية تحت التهديد والوعيد، ولكن حسابات خاطئة ورهان على السراب، فقد آن لعقلية الاستهتار والاستخفاف بالعامل الفلسطيني أن تجد نهاية لها، فالقدس هي القلب النابض بالعمل الفلسطيني، ودونها تكون كل الحلول ناقصة وغير قابلة للحياة، فمشاركة القدس في الانتخابات هي علامة السلامة والحياة لاستمرار العملية السياسية بما تفضي إليه من حل يضمن قيام الدولة المستقلة والقدس عاصمتها وفق القوانين والقرارات الدولية، واستمرار حملات ومحاولات إخراجها من معادلة الحل والسلام لا تعدو ان تكون قفزة في الهواء، لأن التمسك والصمود سيبقى ويتعزز يومًا بعد يوم، وسيفاجئ العدو والصديق في كل موجة من التعدي على الخط الأحمر لمكانة القدس الشريف، ستقهر الاعتداءات وتبقى القدس بصمود أهلها عنوانًا للسلام وعنوانا للمواجهة إذا استمرت محاولات المستوطنين اختبار مكانتها في قلوب أهلها وأصدقائها.
قد تكون هذه الموجة من حلقات مواجهة مستمرة منذ صدور القرار تلو الآخر من قبل سلطات الاحتلال لتغيير الواقع في المدينة المقدسة من طرف واحد، خاصة بعد اعتراف الإدارة الأميركية السابقة بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلا أن هذا القرار لن يغير من واقع المدينة وتاريخها، ولكنه يرفع ثمن الصمود، ويتطلب من كافة الجهات المحلية والإقليمية والدولية الصديقة تكاتف جهودها لمساندة القدس وتعزيز صمود أهلها في بيوتهم وعلى أرضهم التاريخية.
صمود أهل القدس رغم الاعتداءات المتكررة وخاصة في شهر رمضان المبارك، شهادة على أن القدس لا تقبل المساومة مهما كان الثمن والتضحية غالية وصعبة بكل المقاييس، ولكن ما تشهده بوابات القدس تمسك بخطوطها الحمراء فهي الحصن التاريخي وهي ثابت من ثوابت العمل والقضية الفلسطينية، وليس من غريب القول إصرار القيادة الفلسطينية على أن القدس هي مفتاح السلام وبوابة الصراع، والثبات على دور القدس في دورة الانتخابات القادمة هي علامة نجاح مسيرة بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، فلا انتخابات دون القدس، ولا استقرار دون احترام مكانة القدس كعاصمة لفلسطين طال الزمن أم قصر، وهي قلب فلسطين النابض بالحياة مهما تصاعدت هجمات المستوطنين واعتداءاتهم، فالقوة لا تغير الحق وإنما تزيد من إصرار أصحابه على أنهم منتصرون.