حالة الاحباط التي يعيشها الكثير من أبناء فلسطين، وأحرار الأمة العربية، بل وأحرار العالم نتيجة عدد من المواقف العربية المنساقة الى المسلخ الأمريكي-الصهيوني، ليست حالة غير مسبوقة ولا حالة فريدة أبدًا ولا جديدة.
عدد من بلدان الأمة العربية المنساقة اليوم من رقبتها إلى المسلخ الأمريكي وتضحك فرِحة جذلانة ظانة أنها تدخل التاريخ؟!هي بحقيقة الأمر تجرّ من رقبتها جرّا لتدخل في بيت الطاعة الإسرائيلي الذي بُني خصيصًا لمثل هذا اليوم.
نحن انعزاليون!
إنها حالة انحدار تاريخية-سبقها كثير انحدارات- تُشعر الكثيرين بالإحباط، ولكن ليس فيها من الجديد إلا الذهول من سرعة الانخراط "الطوعي" في المخطط الاستعماري لإفقاد الأمة العربية آخر امكانيات تآزرها أو تعاونها أو توحدها ولو على النمط الأوربي، أي بإفقادها الالتفاف حول فلسطين التي كانت قضيتها المركزية الجامعة هذا من جهة، ومن جهة ثانية تأتي سرعة تناقل الأخبار.
يقول الكاتب السعودي عبدالله بن بجاد العتيبي أن: "الأجيال الجديدة في الخليج تطالب قياداتها الشابة بجعل مصالحهم أولاً ومقدمةً على مصالح غيرهم من الشعوب الشقيقة والصديقة، وهم محقون في ذلك"!؟
ونحن هنا لا نقر بما يراه "حقًا" فهذا شأنه، كما لانقر بتمثيله "لكل الأجيال الجديدة في الخليج"! وهو الخليج العربي الذي ينبض مثقفوه بالثقة والبصيرة والعنفوان، المناهض للفكر الانعزالي عن العمق العربي الجامع.
ونفهم من كلامه أن المقصد الرئيس له هنا ب"الشعوب الشقيقة" هم الفلسطينيون، وضرورة التحلل من قضيتهم العربية، في إطار تبريره للتطبيع الإماراتي والبحريني معا في مقاله الداعي للانعزالية تحت مسمى الوطنية.
"إسرائيل" لم ترمِنا بحجر!؟
يبرر الكاتب ذاته سبب إسقاط العمق المبدئي والقيمي والأخلاقي العربي الجامع لنا كأمة لمصلحة الانعزالية الجديدة التي بدأت تطل برأسها بالقول: ""إسرائيل" لم ترمِ دول الخليج بحجرٍ على مدار عقودٍ من الزمن)؟! إذن فلتذهب فلسطين أو سوريا أولبنان الى الجحيم وما لنا وما علاقتنا بها!؟
وفي تساؤل محق وإن على الهامش نقول: هل نقف مع إيران ضد الإمارات في احتلالها للجزر الثلاث لأنها لم ترمِ فلسطين بحجر!؟
تتويجًا لتحليله الانعزالي التحلّلي من الجوامع العربية يقول العتيبي أيضا إن: "طريق السلام الخليجي ليس خيار قياداتٍ واعيةٍ ومتفردةٍ فحسب، بل هو خيار الشعوب الخليجية"؟! وذلك رغم الرفض الشعبي البحريني غير المسبوق للتطبيع البحريني مع الإسرائيلي على سبيل المثال.
"ترامب" الصادق الامين!
وإلى ما سبق يظهر حجم التقديس والانبهار بالرئيس الأمريكي الذي باع القدس للإسرائيليين علنًا، كما باعهم الجولان العربي السوري...، ليقول الكاتب العتيبي قصيدة مديح فيه لم يقلها حتى أتباعه من الحزب الجمهوري: "يثبت الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه قائد حقيقيٌ ومؤثرٌ في العالم، وأنه أوفى بعهوده ووعوده لناخبيه وللعالم، وهو يرعى نشر السلام في المنطقة، وينجح فيما عجز عنه أسلافه"!؟ أي أنه كما كان وصف القبائل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين!؟ حاشا رسولنا الكريم عن التشبيه بمثل هذا الوغد.
تسليم بغداد وخيانة القدس
ليس جديدًا مثل هذه الانحدارات والانحسارات أو التبريرات للسلطان والحكام، فلطالما ردّد الرئيس الراحل ياسر عرفات قصة مؤيد الدين ابن العلقمي الذي خان الأمة العربية والإسلامية كلها وأدخل التتار إلى بغداد بالخيانة (656هـ)، ليعملوا السيف في رقاب الناس ويقتلون الخليفة، وكوفيء ابن العلقمي من المغول بالاحتقار بأن بالَ حصان أحد الفرسان المغول المغمورين على وجهه في مجلِس المغول إمعانأ في إذلاله، ثم سقطت دمشق بعد بغداد بنفس الشكل.
وقد سلّم الأمراء والسلاطين -من أقارب محررها صلاح الدين الأيوبي- مدينة القدس مرتين للفرنجة (الصليبيين)، حيث سلمها للفرنجة خيانةً للأمة السلطان الكامل محمد بن العادل الأيوبي (626هـ)، ثم أعادها وليسلمها ثانية (عام 637هـ) السلطان الناصر داود ابن المعظم (لاحظ الألقاب الضخمة؟!) نكاية بإبن عمه سلطان مصر! وحفاظًا على عرشه! وبتبرير عجيب غريب لخيانته ما نسمع مثله اليوم: (أنه يحافظ على القدس)!؟ وما أشبه اليوم بالبارحة.
ولم تكن التبريرات السلطانية للخَوَر والانحطاط والخيانة بعيدة عن مواضع أخرى في تاريخ الأمة ومنها في الأندلس التي سُلّمت قطعة قطعة، واليكم هذه الحادثة الرمزية: فعندما استنجد العلماء وابن عبّاد بيوسف بن تاشفين البطل المغربي وأمير المرابطين ليوحّد الأمة في الأندلس في ظل ملوك الطوائف تقدم البعض من حاكم أحدى الإمارات مطالبًا إياهُ بأن ينخرط في الإطار الوحدوي مع ابن تاشفين، فما كان منه إلا أن قال: لو جاء أبوبكر وعمر يطلبون ملكي لقاتلتهم بسيفي هذا؟
فما لنا نُحبط عند كل نازلة؟! أونستعجب صعوبة التخلي عن السلطة أو الملك أوالحكم! من أناس ظنّوا أن استمرارهم الذي لا مقوم شعبي له، لا يصحُ إلا بتقديم كل التنازلات للحاكم الفعلي للمنطقة أي للاسرائيلي، فلا عجب ولا عجاب ولا يأس ولا إحباط.
العرب وجمال عبدالناصر
لقد سبق لنا وعشنا كفلسطينيين وعرب نفس الحالة الإحباطية عبر التاريخ الحديث والقديم في عشرات أو مئات الأحداث، ووجدنا على الطريق من المتساقطين والانعزاليين والشعوبيين الكثير ممن لم يعد التاريخ يذكرهم بتاتًا، ولكن تظل الفئة المؤمنة والصامدة والمجاهدة هي حقيقة الدفع للتاريخ الى الأمام وتحقيق النصر في كل مرحلة ذِلّة او إنكسار.
قاد العرب الفلسطينيون ومعهم الكثير من أحرار الامة العربية حروبهم ونضالاتهم في فلسطين فلم يقبلوا احتلال فلسطين أو الهجرة الصهيونية لها فكان العربي السوري عزالدين القسام وصحبه من مصريين وعرب ومسلمين سنة ودروز ومسيحيين، وغيرهم في الميدان، وكان إضراب الشهور الستة الذي أحبطته الدول العربية.
وساهمت كل الأمة بأحرارها في فلسطين، لكن بعد الفشل العربي والانصياع من كثير دول للمحتل البريطاني سقطت الراية العربية في نكبة الأمة في فلسطين عام 1948 فقامت ثورة مصر 1952 لتعلن رفض الهزيمة فتحارب ضد العدوان لتنتصر بمجمل العرب عام 1973.
حاصروا عرفات مرات ثلاث
عندما وقفت الأمة شامخة ومتوحدة حول فلسطين انتصرت، وعندما انصاعت للقدم الهمجية من الإسرائيلي أو الامريكان وقفت تتفرج لثلاث مرات على حصار الثورة الفلسطينية، و ياسر عرفات، فلم يكفِها حصارالعدو الصهيوني للبنانيين والفلسطينيين وعرفات 88 يومًا في بيروت، وإنما أداروا لنا الظهر فكانت صحيفة "فلسطين اليوم" في عنوانها العريض تقول: يا وحدنا.
وما كنا وحدنا أبدا عندما تآزرت الأمة وعندما كان فيها مثل جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز، وهواري بومدين أبدا!
وحينما حوصرت الثورة الفلسطينية إثر حرب الخليج الثانية بالمال والضغوط مما أخمد شعلة الانتفاضة الأولى القوية، وألجأنا لمدريد وواشنطن وأوسلو في ممرنا الإجباري، كان العرب محبطين ومستسلمين كليا للراعي الامريكي.
وفي المرة الثالثة تركوا فلسطين وياسر عرفات وحيدًا تحت حصارنا في رام الله سنوات ثلاث ! وها هم يقتلون محمود عباس اليوم.
الأبطال يسودون
لم يكن للأمة إلا أن تشعر بالانكسار إلى حد الانكشاف والكفر بالكثير من الثوابت مع الغزو المغولي، والغزو الافرنجي حتى تصدى للأعداء من آمن بالله وبالنصر، وقوة الأمة مجتمعة فتحولت القلّة الى أبطال، وراحت الكثرة المحبطة أو المنهارة أوالمتآمرة في غياهب التاريخ.
ليس جديدًا أن يتحول الإحباط أو الهزيمة الذاتية الى خوف ورعب وانعزال، كما في كثير من الدويلات العربية عبر التاريخ وهي تلك التي أبت الوحدة أو أبت الاندراج في السياق الجمعي تحت إدعاء (سيادتها الانعزالية) أو تحت إدعاء (مصالحها الوطنية) أو دوام سلطانها! تفلتًا من القضايا القومية الجامعة.
لم الإحباط؟! في ظل أن حالة التزعزع والانهيارأو الرعب أو "الانعزالية الجديدة" هي حالة دائمة لقصيري النظر الذين لا يثقون بشعوبهم، والذين يشترونهم فقط بالأموال،أو الوعود، وليس بحقيقة الانتماء الأصيل للمباديء والدين والقيم وصلابة الارتباط بقوة الأمة مجتمعة؟ التي بها نجتاز المحيط.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها