التّراثُ الشعبيُّ هو وصيّةُ الأجدادِ إلى أحفادِهم، في تفاصيلِهِ يُخبّئونَ أغلى ما لديْهِم من كنوزِ المعرفةِ والثقافةِ والفنِّ ويمنحونَهُ شكلَ أغنيةٍ أو رقصةٍ أو مَثَلٍ أو حكايةٍ تُدفّئُ ليالي الشتّاء، يتركونَ كلَّ ذلكَ للأجيالِ القادمةِ في ثنايا الكُتُبِ وزخارفِ الثيابِ وفي قصصٍ لمْ يكتُبْها أحدٌ لكنَّ جدّاتِنا يحفظْنَها عن ظهرِ قلبٍ ويردّدنَها كما لو كنَّ شاهداتٍ على أدقِّ تفاصيلِها. من هنا يمكنُ القولُ أنّ التّراثَ الشعبيَّ هو مخزونٌ لا ينضَبُ من مؤونةِ الذّاكرةِ الوطنيّةِ، يزدادُ ثراءً كلّما نهَلْنا منهُ أكثرَ وأكثرَ. إنّهُ ضمانةُ الحوارِ المتواصِلِ بين ثلاثيّةِ التّاريخِ والأرضِ والإنسانِ للحفاظِ على مفهومِ الوطنِ كنتاجٍ متجدّدٍ لهذا الحوارِ، وليسَ مجرّدَ قطعةٍ جغرافيّةٍ مهما كانَتْ مساحتُها وثرواتُها.
التّراثُ الشعبيُّ الفلسطينيُّ جزءٌ من مكوّناتِ الذّاكرةِ الوطنيّةِ وأدواتِ الحفاظِ عليها، بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ منْ ترسيخِ أحدِ أهمِّ عواملِ الشّعورِ بالانتماءِ الوطنيِّ، فالتمسُّكُ بالتراثِ بكلِّ تفاصيلِهِ هو الضمانةُ العمليّةُ للالتزامِ بمعاييرَ موحّدةٍ تحدّدُ الشخصيةَ الفرديّةَ والوطنيّةَ وتميّزُها عن كلِّ ما يحيطُ بها، وتحميها من خطَرِ التلاشي والاندثارِ. هكذا نفهمُ دورَ الرقصِ الشعبيِّ واللباسِ التقليديِّ والعاداتِ المتوارَثةِ في الأعراسِ وسردِ الرّواياتِ الشعبيّةِ والحفاظِ عليها من النسيانِ. وهكذا نفهمُ دورَ الأمثالِ الشعبيّةِ بما فيها من الحكمةِ وخلاصَةِ تجربة أجدادِنا، ومعَ يقينِنا أنَّ التّراثَ الشّعبيَّ معرَّضٌ للتّحريفِ أحيانًا، لأنّهُ في معظمِهِ ليسَ مكتوبًا، إلّا أنَّ الذّاكرةَ الوطنيّةَ تمتلكُ القدرةَ على "غربَلةِ" ما تختزنهُ من ميراثِ الأجدادِ وتستطيعُ سدَّ البابِ في وجهِ ما يحاولُ أنْ يتسلّلَ إليها من الشوائبِ والخرافاتِ.
يجبُ تشجيعُ التمسّكِ بكنوزِ التراثِ الشعبيِّ الوطنيِّ، وفي عَصرِ الذاكرةِ الرّقميةِ واعتمادِ الشبابِ على "الإنترنيت" كمصدرٍ رئيسٍ للمعرفةِ، من المهمِّ أنْ تجري عمليةُ تجميعِ كلِّ ما يتعلّق بتراثنا من حكاياتٍ شعبيةٍ وأساطيرَ إيجابيّةٍ وأمثالٍ ووضعِ ذلكَ في متناولِ الأجيالِ التي تفضّلُ استخدامَ التقنيّاتِ الحديثةِ وتعزِفُ عنِ الكتبِ التقليديّة. كما لا بدَّ من تشجيعِ التمسّكِ بالعاداتِ المتوارثةِ في الأفراحِ والأتراحِ وعدمَ الإنجرارِ وراءَ القوالبِ العصريةِ الجاهزةِ، فما طَعمُ الأعراسِ بدونِ الدبكةِ والزفّةِ والزّغاريدِ والحنّاءِ؟! ففي كلِّ دبكةٍ فلسطينيّةٍ قصّةٌ لعلاقةِ الإنسانِ بالأرضِ، وفي كلِّ زغرودةٍ أملٌ بيومٍ أفضلَ وتفاؤلٌ بالمستقبَل.
ندرِكُ جميعًا أنَّ الحربَ على التّراثِ تشكّلُ جزءًا من الحربِ التي تشنّها دولةُ الاحتلالِ الاستيطانيِّ ضدَّ شعبِنا بتاريخِهِ وحاضرِهِ ومستقبلِه، حيثُ نرى كيفَ تجري محاولاتُ سرقةِ الثّوبِ الفلسطينيّ وكيفَ وصلت محاولاتُ التزييفِ حتّى إلى الكوفيّةِ الفلسطينيّةِ، علاوةً على المأكولاتِ الشعبيّةِ التي يجري تسويقُها في الغربِ كمنتجاتٍ "إسرائيليّة". هذا كلّهُ لا بدَّ أنْ ينبّهَنا إلى أهميّةِ الحفاظِ على كنوزِ ثقافتنا الوطنيّةِ، وخاصّةً على الجزءِ الفريدِ والمميَّزِ الذي يمثّلُهُ تراثُنا الشعبيُّ، فالتمسّكُ بهذا التراثِ هو تمسّكٌ بالتّاريخِ المشرِقِ لشعبِنا، وهو ضمانَةٌ لتثبيتِ الرّوايةِ الفلسطينيّةِ وتحصينِها أمامَ محاولاتِ التّزييفِ الصهيونيةِ المتواصلةِ.
*جَفْرا ودَلْعونا وظَريفُ الطّول والدحيّةُ وحديدون وزنّارُ الفلّاحةِ وقنبازُ المُختارِ وطبخةُ المقلوبة... هؤلاءِ حرّاسُ الذّاكرةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ، يستحقّونَ أنْ نحرُسَهُم ونحميهمِ من خَطَرِ النّسيان.
١٠-٩-٢٠١٩
رسالة اليوم
رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.
#إعلام_حركة_فتح_لبنان
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها