جاءَ الإعلانُ المفاجئُ عن الاستقالةِ المرتقبةِ للمبعوثِ الخاصّ للرئيسِ ترامب إلى الشرقِ الأوسطِ جيسون جرينبلات ليشكّلَ مفاجأةً للمراقبين الذين يشحذونَ الأقلامَ ويَنصبُونَ آلاتِ التصويرِ وهُم ينتظرونَ إعلانَ الإدارةِ الأمريكيّةِ عن الشقِّ السياسيّ لخطّتها بشأنِ حلّ الصراعِ في الشرقِ الأوسطِ، والتي أطلَقتْ عليها اسمَ "صفقةِ القرنِ"، وذلكَ بعدَ الإعلانِ عن الجانبِ الاقتصاديِّ من الخطّةِ في "ورشةِ البحرين" في حزيران/ يونيو الماضي.

 

لقد مرَّ ما يقاربُ العامَينِ على إعلانِ الإدارةِ الأمريكيّةِ عن قرارِها الاعترافَ بالقدسِ عاصمةً لدولةِ الاحتلالِ الاستيطانيِّ الإسرائيليّ، وشكّلَ هذا القرارُ رسالةً واضحةً حدّدت الإطارَ العامَّ لخطّتِها التي روّجتْ لها عامًا كاملاً، وهو إطارٌ يتبنّى وجهةَ نظرِ رئيسِ الوزراءِ الإسرائيليِّ نتانياهو بالكاملِ ويتجاهلُ كلَّ المطالبِ الفلسطينيّةِ المُستندةِ إلى حقّ الشعبِ الفلسطينيِّ في وطنِهِ وإلى مبادئ القانونِ الدوليّ وقراراتِ الشرعيّةِ الدّولية. وجاءت الإجراءاتُ الأمريكيّةُ بخصوصِ منظّمةِ "الأونروا" وقضيّةِ حقّ العودةِ إضافةً إلى الموقفِ الدّاعمِ للاستيطانِ وما رافقَ ذلكَ منْ عقوباتٍ اقتصاديةٍ ظالمةٍ ضدَّ فلسطينَ بكلِّ مكوّناتها الرّسميةِ والأهليّةِ، جاءَ كلُّ ذلكَ ليُثبِتَ صحّةَ الموقفِ الفلسطينيِّ الرسميِّ والشعبيِّ من خطّةِ الإدارةِ الأمريكيّةِ، وهو الموقفُ الذي تمَّ التعبيرُ عنهُ بوقفِ أيّ اتصالٍ رسميٍّ مع الجانبِ الأمريكيّ ما دامَ مصرًّا على التمسُّكِ بالإجراءاتِ التي اتّخذَها والتي تقوّضُ إمكانيةَ التوصّل إلى حلٍّ قائمٍ على مبدأ حلِّ الدّولتَين.

 

لا شكَّ أنَّ الإدارةَ الأمريكيّةَ قدْ تمكّنتْ من تغييرِ الأولويّاتِ في المنطقةِ بأسرِها بعدَ أنْ نجحتْ في خلقِ محاورَ متناحرةٍ حولَ قضايا ثانويّةٍ لا ترقى إلى مستوى الخطَرِ الذي تشكّلُهُ السياسةُ الإسرائيليةُ التي تُمعنُ في ممارسةِ القتلِ والإرهابِ والاعتقالِ وانتهاكِ المقدّساتِ واستباحةِ سيادةِ الدُّولِ المجاورةِ بحجّةِ حمايةِ مصالِحها أو توجيهِ الضّرباتِ الاستباقيّةِ لكلِّ مَنْ تعتقدُ أنّهُ قد يُشكّلُ خطرًا عليها. ولا شكَّ أنّ الحصارَ الأمريكيَّ-الإسرائيليَّ المفروضَ ضدَّ شعبِنا يفاقِمُ منْ سوءِ الأوضاعِ المترديّةِ أصلاً نتيجةً لوجودِ الاحتلالِ، إلّا أنَّ إدراكَ شعبِنا أنَّ الهدفَ منْ وراءِ هذا الحصارِ هو تأليبُ الشارعِ ضدَّ موقفِ القيادةِ الفلسطينيّةِ الرّافضِ "لصفقةِ القرن" يجعلُهُ أكثرَ مناعةً وقدرةً على تحمّلِ تبعاتِ ما يتعرّضُ لهُ من حصارٍ وقرصنةٍ وسرقةٍ لأموالِهِ.

 

استطاعَ موقفُ الإجماعِ الفلسطينيِّ برفضِ التعاطي مع "صفقةِ القرنِ" أنْ يشكّلَ عقبةً لا تستطيعُ الإدارةُ الأمريكيّةُ تجاوزَها بسهولةٍ، ففي الوقتِ الذي يمكنُ لهذهِ الإدارةِ أنْ تتخذَ ما يحلو لها منَ الإجراءاتِ والخطواتِ المتعلّقةِ بالقدسِ واللاجئينَ والاستيطانِ، إلّا أنّها لنْ تستطيعَ الادّعاءَ بإنجازِ حلٍّ سياسيٍّ يُعطي الصفقةَ سيّئةَ الصّيتِ مصداقيةً على الأرضِ ويمكّنُ إدارةَ ترامب من الادّعاءِ بالتوصّلِ إلى حلٍّ لمُعضلةٍ عجزَتْ عن حلّها كلُّ الإداراتِ السابقةِ، فلا حلَّ دونَ موافقةٍ فلسطينيّةٍ رسميةٍ وشعبيّةٍ، ولنْ تكونَ هناكَ موافقةٌ دونَ ضمانِ الحقوقِ الوطنيةِ الفلسطينيّة. بالمقابلِ، وعلى الرّغمِ من تبنّي الخطّةِ الأمريكيةِ لوجهةِ النّظرِ الإسرائيليّةِ فإنَّ مراوغةَ نتانياهو هي واحدةٌ منَ الأسبابِ التي منعَتْ حتى اللحظةِ الإعلانَ الرسميَّ عن الشقِّ السياسيِّ من "صفقةِ القرنِ"، فالحملاتُ الانتخابيةُ الإسرائيليةُ المتكرّرةُ لا تشكّلُ بيئةً ملائمةً لإعلانٍ كهذا، ومنْ هنا تُكيّفُ الإدارةُ الأمريكيّةُ "أجندتَها" وتُخضِعُها لاحتياجاتِ نتانياهو الانتخابيّةِ، وتؤجِّلُ موعدَ الإفصاحِ عن خطّتِها إلى اللحظةِ التي يختارُها نتانياهو نفسُه، علمًا أنَّ نتانياهو لا يبحثُ أصلاً عن "خطّةٍ" لحلِّ الصراعِ بقدْرِ ما يريدُ المماطلةَ حتى دخولِ إدارةِ ترامب في أتونِ حمْلتِها الانتخابيّةِ، وهو ما سيؤجِّلُ البحثَ عنِ "الحلولِ" إلى ما بعدَ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ الأمريكيّةِ، بكلِّ ما يعنيهِ ذلكَ من استمرارِ الوضعِ على ما هو عليهِ، وهذا هو الخيارُ الذي يفضّلُهُ نتانياهو ويسعى إلى فرْضِه.

 

*ليستْ "صفقةُ القرنِ" قَدَرًا مَحتُومًا، وحتّى لو تمكّنتِ الإدارةُ الأمريكيُّةُ من طَرحِ شقّها السياسيِّ فإنَّ هذا الطّرحَ لنْ يكونَ أكثرَ منْ حملةِ علاقاتٍ عامّةٍ لزيادةِ فُرَصِ ترامب بالفوزِ في انتخاباتِ ٢٠٢٠، ولو كانَ لدى إدارةِ ترامب والثلاثيّ الصهيونيّ جرينبلات-كوشنير-فريدمان قناعةٌ بأنَّ هناكَ أدنى فرصةٍ لتنفيذِ خطّتهِم لما قرّرَ جرينبلات القفْزَ من القاربِ المُسْرعِ نحوَ الغرَق. 

 

٦-٩-٢٠١٩

 

رسالة اليوم

رسالة حركيّة يوميّة من إعداد أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال.

#إعلام_حركة_فتح_لبنان